من الندوات التي عقدتها جامعة الملك سعود هذا الشهر لفتتني ندوتان، إحداهما عن ظاهرة ابتزاز الفتيات والأخرى عن الحدّ من بطالة الخريجات. ورغم قناعتي بأن كلّ القضايا مهمة وكلّ مشكلات المجتمع بحاجة إلى ندوات إلا أن تفاوت الاهتمام بالندوتين يمثل من وجهة نظري شاهدًا على دور الدعاية والإعلام في تضخيم القضايا أو التقليل من شأنها. فقد حظيت ندوة الابتزاز باهتمام أكبر وتغطية إعلامية أوسع وبوسترات أكثر، رغم أن قضية الابتزاز أقلّ حجمًا وتعقيدًا من قضية البطالة. فبناءً على إحصائيات هيئة التحقيق والادعاء العام التي عرضت في ندوة الابتزاز بلغ عدد القضايا 1200 قضية سنويًا. وبناءً على إحصائيات إحدى الدراسات التي عرضت في ندوة البطالة بلغ عدد ضحايا البطالة من الخريجات الجامعيات (343) ألف فتاة تقريبًا. وحتى لو قلنا إن هناك الكثير من قضايا الابتزاز التي تتم معالجتها قبل وصولها لهيئة التحقيق يظل الرقم ضئيلاً جدًا مقارنة بالعاطلات عن العمل القابلة أعدادهن للتضاعف حين نضيف خريجات الثانوية والمتسربات منها، فلا مجال إذن للمقارنة بين القضيتين في الحجم. ومن جانب آخر فإن مشكلة الابتزاز مهما تعقدت يظل الحل القضائي هو الحل الحاسم لها من خلال فرض عقوبات رادعة للمجرمين، بينما تشكل بطالة الفتيات عبئًا حقيقيا للاقتصاد والأمن الوطني وتحديًا قويًا للجهات الوزارية وتتطلب حلولاً جذرية واسعة النطاق تمسّ ثقافة المجتمع ومسلّمات أفراده.

وفي كلتا القضيتين مازلنا بعيدين عن توجيه أصابع الاتهام للمذنب الحقيقي لأسباب عدة تجعلنا نتبّع الاتجاه الفكري السائد المتمثل في "لوم القضية". فالمتتبع لتعليقات قراء الصحف الإلكترونية على أخبار ابتزاز الفتيات - باعتبار هذه التعليقات أحد مؤشرات الرأي العام في المجتمع - يجدها تدور حول: "أحسن، تستاهل، من قال لها تصوّر، هي اللي بدأت..." ندوة ابتزاز الفتيات لم تبتعد عن هذا الخط وإن كان بلغة ألطف وأسلوب غير مباشر. أما قضية البطالة فنجد تعليقات المسؤولين لا تبتعد عن: "الفتيات غير جادات في البحث عن وظيفة، شروط الباحثات عن عمل صعبة وكثيرة، تأهيل الفتيات ضعيف، تخصصاتهن بعيدة عن سوق العمل"، وجاءت ندوة البطالة في جانب منها لتردّد هذا التصور. مما يقودنا إلى نتيجة مفادها أن المؤتمرات والندوات العلمية التي تناقش قضايانا الاجتماعية تعمل غالبًا على تأصيل منهج لوم الضحية بدلاً من البحث عن المذنبين الحقيقيين. ولعلّ السبب في انتشار هذه الطريقة من التفكير ما تبعثه من شعور بالراحة والاطمئنان عكس التفكير في الأسباب الصحيحة التي تعرّي المجتمع وتفضح عيوبه، وهل من أحد يحبّ رؤية مجتمعه عاريًا؟!

وإذا كان التوقيت المتقارب للندوتين محض صدفة، فليس من قبيل الصدفة أنّ الباحثات عن عمل أكثر عرضة للابتزاز. ففي أحد المواقع الإلكترونية المخصصة لنشر إعلانات العمل وأخبار الوظائف تحذر الفتيات بعضهن البعض من تقديم معلومات شخصية مستفيضة في السير الذاتية، ويتبادلن النصائح حول أساليب التمييز بين إعلانات التوظيف الحقيقية والوهمية. ومن القضايا التي صدمت الرأي العام قضية "هامور الابتزاز" الذي راح ضحيته (117) فتاة كلهن يبحثن عن عمل. ولذلك فإن من التبسيط المخلّ أن ننظر لقضية الابتزاز بوصفها قضية أخلاقية دون أن تلفت انتباهنا جوانب أخرى.

من هذه الجوانب التي يجب التفكير فيها دور البنية المادية مثل العمل والعلاقات الإنسانية في تبنّي الفرد لقيم المجتمع الذي يعيش فيه وامتناعه عمّا يصدم هذا المجتمع ويثير حساسيته. لنفترض أنني التقيت بإحدى ضحايا الابتزاز فماذا سأقول لها؟ سوف أبتدرها باستفهامات مجازية استنكارية من قبيل: "أنتِ ما عندك وازع ديني؟! ما عندك أخلاق؟! ما عندك شرف؟! ما عندك كرامة؟! ما تخافين على سمعتك؟! تبغين تصيرين عارًا أبديًّا على أسرتك؟! " إنني هنا أعتمد على البنية المعنوية المتمثلة في القيم والأعراف في ضبط سلوك الإنسان وأُغفِل دور البنية المادية المتمثلة في العمل المنتج والعلاقات الإنسانية المشبعة بالحب غير المشروط في الضبط الاجتماعي. والنتيجة هي إنسان معلّق في الهواء من رقبته أو أذنيه لا فرق، مادام عاجزًا عن غرس قدميه في أرضية صلبة تحميه من السقوط.

ومن الجوانب الأخرى التي تسترعي الانتباه أيضًا تركيزنا الدائم حول العوامل المؤدية للانحراف وسبل الوقاية سواء في هذه القضية أو في غيرها من القضايا. إننا نتساءل باستمرار: لماذا تحدث هذه المشكلة؟ لماذا تتعرض الفتاة للابتزاز؟ لماذا يمارس الطلاب العنف؟ كيف نقنع الشباب بعدم تعاطي المخدرات؟ وأمثالها من الأسئلة التي تصبّ في جانب السلب (المنع = الكفّ) وقليلاً ما نفكر في بنائهم وإثراء شخصياتهم بطريقة تجعل لحياتهم في هذا المجتمع معنى. أن يكون لحياتي معنى فهذا يبعدني تلقائيًا عن مظانّ الفساد والخروج عن القيم السائدة. ولكي يكون لحياتي معنى لابدّ من أن يكون لي موطىء قدم في مناشط مجتمعي ومصادر الرزق الحلال في وطني. وهنا يأتي دور التربية المفقود في التثقيف المهني للطلاب والطالبات منذ المرحلة المتوسطة وتشجيعهم على ممارسة العمل التطوعي في المرحلة الثانوية والجامعية. وهذا من شأنه أن يسرّع من انخراطهم في العمل المنتج بعد التخرج والتقليل من سنوات الضياع.

إن البطالة وتؤدي إلى الانحراف. وهذه نتيجة توصلّت إليها إحدى الدراسات المقدمة لندوة البطالة، ومما يزيد الأمر سوءًا أن هذه الدراسة قد توصلت أيضًا إلى أن الواسطة (ما غيرها) هي المسبّب الأول للبطالة من وجهة نظر الفتيات. ومن النكات التي تتبادلها الفتيات على الفيس بوك حول موقع "جدارة" المخصص لاستقبال طلبات التوظيف أن إحداهن حين أدخلت اسمها ولقب عائلتها لم يقبل النظام وحين أدخلت لقب إحدى العائلات "الجديرة" قبلها النظام.

إن اغتراب الشباب والفتيات عن مصادر الرزق الحلال في المجتمع وشعورهم بغياب العدالة الاجتماعية قضية خطيرة تمسّ الأمن الوطني وتحتاج للمزيد من المكاشفة والحلول العملية بدلاً من التركيز الكامل على الوعظ الأخلاقي. وربّما كان من الأجدى بدلا من أسئلتي الاستنكارية السابقة لضحية الابتزاز أن أوجّه لها سؤالا حقيقيًّا: "ما عندك واسطة؟".

وأخيرًا أيها الناس إذا أردتم أن تنقذوا إنسانًا من السقوط فلا تمسكوه برقبته فتقتلوه، ولا بآذانه فتذلّوه، ولا تصنعوا له سلّمًا كهربائيا فتفسدوه، ارموا له حبلاً وسيتكفّل بالباقي.