في كل مرة تتشكل السحب وتظهر الغيوم على مدينة جدة، كما كان عليه الحال قبل ثلاثة أسابيع، تنطلق الشائعات، ويعود شبح الغرق والموت إلى قلوب الناس، ونبدأ في التخبط خوفا على أبنائنا وبناتنا في مدارسهم، ونخشى على ممتلكاتنا من أضرار السيول. يخرج الآباء لإخلاء المدارس من طلابها الذين أصابهم الخوف ودخلهم القلق من ذكرى التجارب السابقة. ثم نبعد السيارات ونختار لها مواقع مرتفعة ونحميها، ونضع المتاريس الترابية أمام أبوابنا لمنع المياه من الدخول، وتتعطل بذلك الأعمال ومصالح الناس.
وها نحن بعد موسمين وتجربتين قاسيتين، وعدة من الإشاعات الكاذبة، يلحق بنا هلع مرة أخرى، ونحن لا نزال نشكل اللجان ونكثف الاجتماعات بحثا عن الحلول، التي يبدو أننا لم نجدها بعد. فجغرافية مدينة جدة الطبوغرافية تجعل الحلول الجذرية لموضوعنا غاية في الصعوبة ومكلفة جداً. ويصبح اللجوء إلى الحلول التقليدية (التي ندور حلولها) لبناء شبكة من قنوات تصريف السيول وتحريك المياه بفعل الجاذبية إلى البحر أو الوديان، كما هو الحال فيما نعرف من مدن العالم، أمرا مستحيلاً.
لن تختفي السيول أو يتوقف هطول الأمطار، فحديث المتخصصين في الأرصاد وعلماء المناخ يوحي بأن العواصف المطرية ستتكرر في الأعوام القادمة بنفس المعدل، ومنهم من يرى أن وتيرتها ستزداد وحجمها سيتعاظم عاما بعد عام. وينسب بعضهم ما يطرأ على مناخ المنطقة إلى ظاهرة الاحترار العالمي والتغير المناخي، وهناك آخرون يعتقدون أنها دورة مناخية طبيعية ستمر بها مدينتنا كل عدة سنوات. يقول الدكتور منصور المزروعي رئيس مركز التغير المناخي بجامعة الملك عبد العزيز: "إن منطقة البحر الأحمر تتعرض لتغيرات مناخية ملحوظة، بعضها لم نصل إلى تفسير دقيق له".
وإلى قضية السيول ثانية، فإنه عندما وضعت مخططات المدينة، إن كانت هناك مخططات لجدة، فإنها لم تراع مسألة تصريف السيول، وكأنها في عصمة من مياه المطر، وبالرغم من تعرض المدينة لسيول قديمة دونها التاريخ، وبعضها لا يزال في الذاكرة، وضعت المخططات لكل حي أو شارع في معزل عن باقي المدينة، وأصبحت المدينة أوصالا متفككة، لا يرتبط بعضها بالآخر هيدرولوجيا، (أي أن منسوب الشوارع لا يسمح للمياه بالحركة والخروج من المنطقة بفعل الجاذبية الأرضية)... وهذا عامل رئيس في مآسي مدينة جدة ومعاناة أهلها.
وعندما تتفكك المدينة بهذه الصورة وتصبح قطعا معزولة عن بعضها، تتشكل المستنقعات حتى بهطول أمطار خفيفة أو متوسطة، وتصبح كارثية عندما تكون العاصفة شديدة والمطر غزيرا، ولا تبدأ المياه في مغادرة المنطقة إلا بعد أن تمتلئ المنخفضات وتتشكل البرك والمستنقعات، التي يصل بعضها إلى حجم ملاعب كرة القدم، ونقف أمامها عاجزين ولا تسعفنا الحلول التقليدية المجربة.
لكن عندما تعجز الحلول التقليدية في درء الأخطار، يلجأ المهندسون والباحثون إلى ابتكار حلول تتناسب والظروف القائمة التي لا يمكن تعديلها ولو شئنا، إلا أن نزيل أحياء بكاملها ونعيد بناء ورصف شوارع وطرقات من جديد، وهو لا شك أمر يقترب من المستحيل.
أطرح اليوم حلا، لا أدعي أنه الوحيد، ولا أزعم أنه يغني، لكن نسهم، علنا نعين المشتغلين بأمر السيول في جدة. يستقي هذا الحل فكرته من طبيعة المدينة الطوبوغرافية. أولا نبدأ بعزل الأراضي المنخفضة داخل المدينة، وحساب المساحة الإجمالية للمنطقة المتصلة بها هيدرولوجيا، وتقدير كمية الأمطار التي تسقط على تلك المنطقة فقط، ثم نتعامل معها على أنها وحدة واحدة وفي معزل عن باقي المنظومة. وتحقيق هذه الحسابات بات أمرا يسيرا في وجود أجهزة المساحة المتطورة، والاستعانة بالخرائط المتاحة لدى الهيئة السعودية للمساحة الجيولوجية، إضافة إلى خرائط قوقل ونظم المعلومات الجغرافية المتطورة إلى حد بعيد.
من هذه البيانات ونتائج الدراسات الجغرافية، يمكن بناء نظام مستقل للتعامل مع تصريف مياه كل منطقة على حدة. فيمكن على سبيل المثال، وفي جزء من هذه المواقع المنخفضة، بناء صهاريج لاستيعاب جزء من كمية الأمطار، ويمكن حساب حجمها بناء على الإحصائيات المناخية وتاريخ معدل هطول الأمطار في المنطقة، وسعة المعدات المستخدمة لسحب المياه. تزود هذه الصهاريج بمضخات ضخمة، تعمل وتنظم قوة دفعها ذاتيا، ويمكن أن تسحب المياه من الصهاريج بمعدل وصولها أو قريبا من ذلك، وتصريفها إلى قنوات رئيسية. ولا يعني هذا بأي حال بناء صهاريج عملاقة تستوعب ملايين الأمتار المكعبة التي تسقط خلال عاصفة من الحجم الكبير، لأنه يمكن التعويض عن حجم الصهاريج بزيادة طاقة مضخات المياه، وتوسيع مساحة مقطع القنوات الرئيسية.
أما القنوات الرئيسية فبعد أن تقسم المدينة في خطوط تتوالى من الشمال إلى الجنوب بحسب ما تقتضيه الحاجة وتسمح به الظروف، وتبنى بين كل خطين من الشرق إلى الغرب بأحجام تستوعب مياه المناطق والأحياء التي تفرغ مياهها في هذه القناة. ويمكن الاستفادة هنا من قنوات تصريف السيول الموجودة حاليا مع بعض التعديلات الضرورية وإيصالها إلى البحر. ومن الممكن مد أنابيب تصريف السيول في الشوارع الرئيسة وربط بعضها، والممكن منها، بإحدى القنوات القريبة، أو مدها مباشرة إلى البحر.