"هنا لندن"، جملة اعتادتها أسماع العرب الباحثين عن الأخبار الخفيّة منذ سنة 1938، وهي ـ في ذهنية المتابعين ـ إذاعة تُورد الأخبار التي لا توردها الإذاعات العربية الرسمية إلا بطريقة حييّة.
كان المهتمون بمتابعة الأحداث يتنافسون في ابتكار الطرق التي تكفل لهم الاستماع إلى "لندن"؛ فيحرص بعضُهم على اقتناء أجهزة "الراديو" الممتازة، ويعمد آخرون إلى إيصال هذه الأجهزة بأنواعٍ غريبةٍ من الهوائيّات، و"الشاطر" هو من يستطيع التقاط موجات "لندن" قبل أن يعسعس الليل.
في الأزمات والحروب، كانت "لندن" سببا في سعي أصحاب وكالات بيع أجهزة "الراديو" إلى استيراد أنواع جيدة، ومقياس الجودة هو وضوح "لندن"، وعدم تقطّع دقّات "بق بن".
مع ظهور "سي إن إن"، التي عرفها من لم يكن يعرفها من العرب، إبان الغزو العراقي للكويت، ثم ظهور الفضائيّات الإخبارية العربية، تلاشت أهمية صوت "لندن"، وباتت "الجزيرة" و"العربية" مصدرين رئيسين للأخبار، بل إنّهما تكادان تنفردان، حتى باتت مقارنات العامة والخاصة بينهما ممارسة يومية، سواء أكانت تلك المقارنات شفاهية يسيرة، أم كتابية عميقة، فالقناتان باتتا فرسي رهان، ولكلّ منهما مؤيدون ومتعصبون، وأعداء ومعارضون.
مع بروز الثورات الشعبية في بعض بلدان العالم العربي، تعرضت هاتان القناتان إلى هزات عنيفة على المستويين: المهني والتقني؛ فإحداهما ظهرت منحازة انحيازا مكشوفاً في غير حدث ومكان، والأخرى متذبذبة بين الحياد والانحياز، حتّى احتار المتابعون، واختصم القوم جراهما، لتصير القناتان عنصرا بارزاً في هتافات المتظاهرين ولافتاتهم، وذلك دليل على تأثيرهما القوي في مسارات الأحداث وتطوراتها.
الانحياز، والتذبذب، وهجمات التشويش المتلاحقة على ترددات القناتين؛ جعلت قسما كبيرا من المتابعين يبحثون عن بديل، فكانت "بي بي سي" العربية أقرب إلى العيون من الجفون، لتعود "هيئة الإذاعة البريطانية" إلى الواجهة من جديد، وتعود معها أحاديث "الأجندات" الخفية للإعلام الغربي الناطق بالعربية.
"بي بي سي"، استطاعت أن تتجاوز عثرات بداياتها سنة 2008، وأن تتقدم بسرعة كبيرة نحو مقدمة الركب الإعلامي، لتثبت أن العراقة وتراكم الخبرات هما الحائل الأقوى دون الوقوع في الانحياز المكشوف، ودون التعثر في مطبات الأحداث وفجائيتها.