مع التحولات السياسية العربية الأخيرة ودخول الشعوب على خط الفعل والتأثير والتغيير بدأت الكثير من معاني ومفاهيم الديموقراطية تظهر على أرض الواقع العربية بعد أن كانت محبوسة لعقود طويلة في الدساتير وخلف جدران قوانين الطوارئ.
أحد هذه المفاهيم الأساسية في الديموقرطية هو مفهوم "المجال العام". أو على أرض الواقع العربية "ميدان التحرير" في مصر، "ميدان التحرير" في اليمن، "ميدان عبدالناصر" في الأردن و "الساحة العامة" في درعا، وقبلها "منطقة الحبيب أبو رقيبة" في العاصمة التونسية.
حين أراد الناس التعبير عن أنفسهم بصفتهم مجموعاً هرولوا تجاه هذه الأماكن لأنها باختصار معدّة لهم بحسب تركيبة الدولة الحديثة. فالمجال العام هو مأوى الناس من الدولة. من أهم من اشتغل كثيرا على هذا المفهوم، الفيلسوف الألماني المعاصر هابرماس. ففي أغلب كتبه كان تصوره للتواصل الاجتماعي وتحقيق الحوار بين المواطنين في الدول الديموقراطية وتحقيق السلم والحرية، يمرّ بالضرورة عبر مفهوم المجال العام. المجال العام هنا هو مفهوم فيزيائي ونظري في ذات الوقت. فهو من جهة، قطعة من الأرض غالبا ما تكون في قلب المدينة سابقة وسالمة من سلطة الدولة وسلطة العلاقات الاقتصادية. نظريا وذهنيا هي مساحة لحرية التفكير والتعبير والاختلاف.
هذه المساحة تختلف عن المجالس النيابية والتشريعية باعتبار أن الأخيرة هي جزء من تركيبة الدولة وخاضعة للنظام السائد بآلياته وتراثه. في المقابل يبقى المجال العام مجالا بكرا. للمجال العام قدرة على الطهر الدائم والولاء الأبدي للشعب، فحين فقد الشعب المصري ثقته في مجلس الشعب والحكومة وكل ما يمت للنظام بصلة بقي ميدان التحرير وفيا للناس. المجال العام باعتباره خارج اللعبة السياسية التي غالبا ما تديرها الحكومات والأحزاب الرسمية يبقى خالصا للناس متمنعا عن التملك للآخرين.
المجال العام أيضا هو مجال سالم من ضغط الحسبة الاقتصادية. فالانضمام له لا يتطلب أي صفة اقتصادية كما أن العلاقة داخله لا تصاغ حسب سلطة المال. ميدان التحرير في القاهرة كان مثالا واضحا على هذا، فجماعة الثوار الذين اجتمعوا في الميدان كانوا يتشكلون من تركيبة فريدة من نوعها قياسا بتركيبة جماعات الفعل في المجال السياسي والاقتصادي. في ميدان التحرير كان الأفراد" البسطاء" على أهمية كبيرة في شحن المجال العام بالأفكار والمشاعر. يمكن القول بوضوح إن فئات الشعب المحرومة من الفعل السياسي لأسباب سياسية واقتصادية وجدت في المجال العام مكانا لها فعادت للفعل والتأثير.
يشبّه الكثير من الباحثين المجال العام باعتباره مسرح المجتمعات الحديثة التي تتشكل فيه الرؤى السياسية. شاهدنا بوضوح كيف كان ميدان التحرير مسرحا للتغيير السياسي الأخير في مصر. كل القنوات الفضائية والمحررين والمتابعين كانوا، لأول مرة، يتابعون القرار وهو يدار ويصدر من ميدان التحرير.
المجال العام هو قناة لفك احتقان أي مجتمع. ففي أحيان كثيرة تصل العلاقات الطبيعية في أي دولة حديثة بين مجال التشريع والتنفيذ والمراقبة إلى منطقة مسدودة تتمثل في يأس الشعب من قدرة هذه الأجهزة عن تقديم أي حلول. في هذه اللحظة يحضر المجال العام باعتباره القناة، السلمية الحضارية، التي تجتمع فيها الأفكار والمشاعر لتحقيق التغيير والخروج من النفق المظلم.
في الدول التي لا تعترف بالمجال العام، ليبيا على سبيل المثال، يختنق الفضاء ولا يبقى سبيل للتغيير سوى القتال. لا ننسى أن الحرب والقتال كانا وسيلة الإنسان للتغيير حتى وصل إلى مفهوم الدولة الحديثة التي تسمح بالتغيير مع بقاء المؤسسات.
في غياب المؤسسات الديموقراطية يتعذر التغيير غالبا بطريقة سلمية. يمكن القول إنه حين تسلب الدولة الناس مجالهم العام فإنها قد سلبتهم أي وجود خارجها. وحين يصل بهم الحال إلى يأس عميق منها فلا سبيل لتحقيق وجودهم إلا بالقضاء عليها باعتبار أنها هنا أصبحت الكيان الذي يلغي وجودهم ويحرمهم الحياة ككائنات حرة متساوية.
هنا يحضر المجال العام باعتباره صمام أمان للسلم والتماسك الاجتماعي. الكل اليوم يراهن على هذا المجال من أجل الخروج من التأزمات السياسية والاجتماعية. هابرماس يراهن على هذا المجال في أوروبا وأمريكا من أجل تجاوز أزماتها الفكرية والاقتصادية. الشرق الأوسط هو أيضا مساحة حادة لفعالية المجال العام. المهم هنا، عربيا هو الخطوة القادمة، هو كيف يكون المجال العام مساحة يجتمع فيها المختلفون لا المتفقون.
المجال العام العربي قدم نموذجا هائلا في كيف يتحد المختلفون تجاه خطر واحد. رأينا كيف اجتمعت مختلف التوجهات والتيارات في فضاء هذا المجال متحدين تجاه خصم واحد. التحدي الأكبر هو كيف سيجتمع هؤلاء مختلفين لا متفقين. كيف سيجعلون من هذا الاختلاف محركا أولا لفعالية اجتماعية وسياسية. كيف سيستطيعون، من خلال المجال العام، خلق مساحات أوسع في العقول والنفوس، تعمل بحرية من أجل تحقيق حرية الأفراد والمجتمع وفعالية اجتماعية تسير بهم للحياة الكريمة.
هنا نحتاج إلى وعي عميق وحقيقي بقبول الغيرية والاختلاف. وعي عميق يحقق مستوى عاليا من المساواة بين الناس على أرض الواقع. وعي عميق يواجه تحديات حقوق الإنسان والتربية والتعليم والاختلاف والتنوع.
برأيي أن المجال العام يجب ألا يتوقف،عربيا، على مهمة إسقاط النظام، بل لا بد أن تبقى ميادين التحرير هي مولدات الأفكار والاتجاهات الجديدة لتحقيق التغيير الكبير في فترة ما بعد إسقاط النظام.
لا بد أن يبقى المجال العام فاعلا بالموازاة مع الجامعات ومراكز الأبحاث ومجالس التشريع وصياغة الأنظمة. المجال العام هو رحم الحرية ومصدر الشرعية وتبقى المهمة الكبرى كامنة في القدرة على تحمل مسؤولية المشاركة في هذا المجال.