ربما تم فهم الثورة المصرية والتونسية لدى بعض الفئات في الخليج على أنها مجرد مدخل أو مبرر لفرض واقع ذي صبغة طائفية، وليست بنية كاملة من الوعي والمؤثرات الجديدة والقيم العالمية التي حظيت بشيوع جارف، ولذا تمت قراءة التحركات الشعبية على أنها قد تكون مفتاحا يمكن من خلاله إدارة أكثر من معركة، حتى لو كان التغيير مجرد ذريعة لا هدف.
من هنا يمكن البدء بقراءة ما يحدث في البحرين، إنه مجرد محاولة لتحويل الاحتجاجات إلى مدخل لبناء وضع جديد يرتكز على أبعاد مذهبية وطائفية، ولكن إدارتها تمت بأدوات قديمة وعبر مختلف خطوط المعارضة التقليدية التي ظلت لسنوات لا على أنها تدير مشروعا بعيدا عن السلطة، بل خطا موازيا للسلطة إنما مع اختلاف الموضوع، وذلك جانب من أزمة أحزاب وحركات المعارضة في العالم العربي بشكل عام، فكيف بها وهي تتحرك من وازع أيديولوجي أو مذهبي، وحتى في مصر لا يمكن أن تبحث في وجه الثورة عن أي ملامح لحزب الوفد مثلا أو غيره من الأحزاب المعارضة، لسبب يسير جدا هو أن هذه الثورة ليست معارضة كما يفهمونها، وليست فرصة للانقضاض على الأنظمة، ولكنها وعي جديد ومختلف للغاية. ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك ما يمكن قوله حول تجربة الاحتجاج في الجزائر، مع أنها كانت من أكثر دول بلاد أفريقيا العربية المرشحة للثورات، إلا أن الخطأ الأكبر الذي طمس كل تلك التحليلات، أن ما كاد يحدث في الجزائر، كان احتجاجات وليس ثورة، وتمت إدارة تلك الاحتجاجات من خلال قوى المعارضة التقليدية التي تملك أدوات قديمة ومبررات قديمة، بل وتنطلق غالبا من عقد قديمة، أشبه بمن يسعى ليتعامل مع الفيس بوك على أنه صحيفة حائطية!
إن وجوه المعارضين القدامى وهي تتصدر عناوين الأخبار عن البحرين تشير فورا إلى أن فهما منحرفا للاحتجاجات هو الذي بات يلوح في الأفق، فهم لا يدركون أن ما يحدث لا يمكن أن تتم إدارته بأدواتهم، وحتى حسابات الأقلية والأكثرية يمكن أن ينظر إليها وفق منظور إقليمي لا وفق منظور محلي، والبحرين تمثل حالة منطقية للتعايش الذي يحتاج إلى مزيد من الإصلاح، لكنك تتحدث عن معارضة لم تجرب حتى تلك الحلول التي تطرحها الحكومة، ناهيك عن أن تبتكر من تلقاء ذاتها حلولا للأزمة.
كذلك لم تستطع القوى ذات التوجه الطائفي في المنطقة كحزب الله وبعض القوى البحرينية ذات النزعة المذهبية أن تكبح جماح وازعها الطائفي، ولا أن تحافظ على لغتها السياسية، فما هو التفسير السياسي الذي يمكن أن يُفسر كلام السيد حسن نصر الله وموقفه من الأزمة في البحرين؟ لقد أعطى تصريحه تأكيدا على صواب كل توصيف طائفي يمكن أن توصم به مظاهر الاحتجاج في البحرين، ولقد تحدث كثير من الإصلاحيين والمعتدلين في إيران عما أسموه بتناقض آية الله علي خامنئي حين أدان التعامل الأمني مع الثورة في البحرين – مع وضوح نزعتها الطائفية – بينما ظلت قوات الباسيج والحرس الثوري تقتل المتظاهرين في شوارع إيران لمدة أشهر في أواخر عام 2009، وهو ما يكشف حجم المفارقة فعلا.
ما معنى أن يتحدث رئيس لحزب أو مليشيا ويعلن وقوفه ودعمه لتحرك أبناء طائفته في منطقة ما؟ إنها الأيديولوجية التي لا تنفع فيها حدود الدولة مقابل حدود المذهب، إذ رأى حسن نصر الله أن ما يحدث في البحرين يمسه هو، بينما يفترض أنه لبناني يدرك حدود الدولة وبالتالي حدود مواقفها وعلاقتها بالجيران، لكن حدود المذهب كانت بالنسبة له أعتى وأكثر قوة وتأثيرا، وهو ما يمثل إرباكا فعليا لمفهوم الدولة الذي يعيشه وينتمي إليه نصر الله، وبالتالي "حزب الله الإيراني".
ترى من الذي يمكنه أن يعدد لنا أسماء خمسة أو ثلاثة من شباب الاحتجاجات في البحرين؟ في الواقع، ربما يكون لا أحد، ذلك أن ما حدث كان نوعا من انتهاز الخصوم التقليديين لظرف إقليمي جديد، أرادوا اتخاذه كوسيلة للوصول إلى هدف وغاية أيديولوجية قديمة، وهنا تكمن المفارقة، ولقد كان لحضور قوات درع الجزيرة دور بالغ في تشتيت الهدف، وساهم في إرباكه وإلا فما الذي يجعل حسن نصر الله اللبناني الجنسية يعرض التدخل للمشاركة فيما يحدث في البحرين؟ الجواب يؤكد أنه وغيره لا يعملون للدولة وإنما للمذهب والطائفية.
من هنا يبدو أن ثمة ما يغيب عن النسخ غير الأصلية لثورات مصر وتونس وليبيا، وهو شرط الوطنية بمعناها الفعلي، فلقد كانت تلك الثورات وطنية بامتياز، تدرك أنها أمام كيان وأمام دولة تسير في الاتجاه الخطأ منذ عشرات السنين وأن إنقاذها الذي يحفز شبابها للتحرك آن أوانه، ولكي يحدث لا بد أن تتخلص البلاد مما يشتت وطنيتها.
تلك الثورات خرجت من أجل بلدانها ووفق منطق واضح ومحدد الملامح، لأنها -الثورات الحالية- يجب أن تكون ثورات قطرية يؤمن بها الشباب بمنطق الوطن الذي لا مكان فيه سوى للحقوق والمساواة والحرية والديموقراطية، وذلك الشرط الوطني هو ما عزز من قدرة وقوة تلك الثورات وصمودها، وتحقيق ما تأمله من نتائج، لأن المعادلة بهذا المنحى قابلة للقياس والتحقق، بينما المعادلات الأيديولوجية الدينية لا تقبل القياس ولا تحتكم لشروط الواقعي.
إذن، يبدو أن منطقة الخليج سوف تعيش تفسيرا بدائيا وسلبيا لكل تحرك احتجاجي، ذلك أن ثمة وتدا في المنطقة يسعى فعلياً إلى جر مختلف التحركات إلى مركزه. بينما تحاول دول تتعرض للثورات الآن أن تلقي باللائمة على الغرب أو القاعدة أو التحركات الطائفية، كاليمن وسورية، وتبذل كل ما في وسعها لتمرير ذلك، إلا أن الخليج العربي لديه بالفعل خصم حقيقي أقنع العالم بكل ذلك، فإيران تسعى بكل جد لتحويل الاحتجاجات إلى ثورات معممة حادة، ولكم أن تتوقعوا بعد كلمة حسن نصر الله عن البحرين ما يمكن أن يحدث من تصعيد في المواقف السياسية الإيرانية تجاه البحرين والمنطقة.