تبدو المسافة قصيرة جداً بين لعن الصليبيين وطلب مساعدتهم! ومع ذلك فبيننا من لا يعترف بفضل الحضارة الغربية وآدميتها إلا عندما يحتاجها، وكأنه لا يكفي أنها تحمي العرب من بعضهم البعض حينما تتنادى في أعماقهم موبقات القبيلة؛ فالغرب الذي نهجوه صباح مساء يبقى هو الأعقل دائماً، وهو الأكثر إنسانية مهما أنكرت نرجسياتنا العالية أن هنالك من هو أفضل منا في هذا العالم، وحتى لو جعلناه دائماً حمالة الحطب، والتآمر، والدسائس؛ فهو في النهاية من يدير لعبة تبادل المصالح بين الأمم باحترافية كبيرة، وهي مصالح لا صداقات أو عداوات؛ كما قالت يوماً مارجريت تاتشر.. هذا الغرب (الهمجي/ الكافر) بحسب البعض؛ هو الذي يشد طغاة العرب اليوم من آذانهم حينما يوغلون في القتل، وهو الذي يحمي رقاب العرب من طائرات أعدائهم/ بعض حكامهم. هو يد (عمرو) المكروهة التي نلجأ إليها حينما لا تستطيع أيدينا أن تزف إلينا بشائر الخلاص، وأعتقد أنه يأخذ الثمن عندما يأتي، ويحرص على مصالحه كما نحرص نحن أيضاً؛ جنباً إلى جنب مع حقوق الإنسان، والعدالة الدولية، والفصل السابع، والفرق بيننا وبينه؛ أنه ليس لديه مشاكل ـ كبيرة ـ مع الإنسان والحريات والمال العام، وهي مشاكل العرب الثلاث التي طالما جلبت عليهم الخراب والدمار؛ بل وتوشك أن تجعلهم خارج التاريخ.

أكثر ما يدهشني في هذه اللحظات العربية الفارقة؛ أن هذا الغرب ـ السيئ في ثقافتنا ـ سرعان ما يتحول إلى ملاك رحمة عندما نحتاجه، وكذلك عندما تفشل كل شعاراتنا في إيجاد حل معقول لمشكلة ما، ويتحول أيضاً من همجي كافر لدى البعض إلى جنة حقوق إنسان، ومحام شاطر يُستحسن الاعتماد عليه دون تلكؤ! حتى إن المنظمات الإسلامية التي طالما قدمت نفسها كعدو واضح لهذا الغرب، ولكل أنظمته الحقوقية والإنسانية؛ لا تلبث هي الأخرى أن تطلب منه القيام بدوره سريعاً؛ بل وتدعوه لدخول الأراضي التي يشاء دون تحفظ حينما يشتد عليها الوطيس.

لكن المحير أن أولئك المرحبين والداعين؛ يرفضون بشدة أن يهتم الغرب بمصالحه داخل البلاد العربية، أو أن يعمل لأجلها، أو أن يحصل على ثمن ما، وكأن المطلوب فقط: شركة أمن يتم التعاقد معها لإنجاز مهمة ثم ترحل بنهاية العقد دون شروط أو تنازلات! وإلا فستخرج كل افتتاحيات الصحف والفضائيات العربية لشتم الغرب (الملاك قبل قليل) وتحويله إلى عدو محتل وإمبريالي غاصب، على الرغم من سيره بالمغانم من قبل ومن بعد.

هذا الغرب الملاك حيناً، والهمجي الكافر في أحيان كثيرة لدى البعض؛ ليس لعبة بأيدي العرب يأتي ويذهب كما نشاء، بل من حقه أن يهتم بمصالحه كما نهتم نحن بمصالحنا، صحيح أن بعضنا يُصدم حينما يكتشف أن آدمية الغرب ليست من أجل سواد عيوننا؛ لكن الصحيح أيضاً أنه لا مقارنة بالمرة بين حقوق الإنسان في العالم العربي وفي الغرب، ورحم الله من عرف قدر نفسه.

أنا لا أحاول هنا أن أكتب قصيدة في هذا الغرب الذي أتعبنا، ولا أستلب نفسي وإياكم أمام حضارته، وإن كنت من المعجبين بها في الجانب الإنساني على الأقل؛ لكنني أدعوكم لتأمل الأحداث العربية دون مواقف مسبقة، وستجدون أن بعض النشامى العرب يريدون من الغرب أن يكون شركة أمن بحتة تأتي وتذهب بالتليفون، وأن تشتغل وفقاً للمخطط الذي رسموه في عقولهم، دون تبعات أو خسائر، ولا أدري كيف سيكون موقف هؤلاء لو عكسنا الصورة؛ بمعنى أن يخرج بعض الغربيين لمهاجمة العرب عندما يهتمون بمصالحهم في الغرب إن كان ثمة شيء؛ ماذا سنقول، وعن أي مؤامرة كبرى سنتحدث؟!

ولكل ذلك يمكن القول ببساطة: إن أكبر مسمار للسيد جحا في هذا الشرق الدموي هو الغرب، إذ هو المشجب الكبير الذي نُلقي عليه عللنا منذ خمسين سنة، وهو أيضاً الأب الرحيم لحقوق الإنسان؛ فقط حينما نحتاجه، وسيان تدخل أو لم يتدخل في الشؤون العربية؛ فسيظل الحواة في كل ربع من ربوعنا العربية يبحثون عنه في كل التفاصيل كي يتخلصوا من عاهاتهم المستديمة.

أخيراً: تقول حكايات الجدات إن خاطبة الحي هي المرأة المميزة جداً في أي مكان، وهي التي لا يمل الناس من حديثها، لكنهم حينما يرون ذوقها الرديء في الاختيار؛ يلعنون ذلك اليوم الذي عرفوها فيه، إذ لا يدركون أنها تاجرة في الأصل إلا بعد وقوع المحظور، ومع ذلك فهم لا يستغنون عنها أبداً؛ إما لتصحيح خطأ سابق، وإما للبحث مجدداً عن عروس أحلى.. ربما هذا حال العرب مع الغرب، يوم لعنة، ويوم محبة، ولا عزاء لما بينهما من الأحلام والأماني، وربما الموبقات.