خيم على الحارة هدوء لم تعتده منذ زمن. هذه المرة كان مشوبا بجرعة عالية ومتناثرة من الحزن فقد انطفأت عدة أرواح في أركانها.. كان القاسم بين من رحلوا بياض قلوبهم ولحاهم.. وأكفانهم فيما بعد. تندَّر صديقي الذي كان مليئا بحزن يداريه بالمكابرة.. قال "يبدو أن عزرائيل قرر أن يقوم بـ "جرد" لم يعمله بالحارة منذ زمن. صديقي ذاك كان في قائمة جرد أخرى بعد زمن. مات أبي ثم أبو عمر الفرَّان ثم عم هاشم..

ياااه عم هاشم.. صورته حضرت قبل الآخرين الليلة. كان قصير القامة أبيض إلى حد الاحمرار ممتدا إلى أصله التركي. له لحية بيضاء خفيفة جدا كأنها نابتة للتو ولكنها خشنة جدا، وكانت تلك مبعث هوايته المحببة في مسحها على خدود الأطفال الصغار الذين رغم محبتهم له كانوا يهربون من ضريبة هي السبيل لقطع الحلوى التي ربما كانت الشيء الوحيد في جيبه. وبقدر ما كنت أحبه كنتُ أرتعد من حتى التفكير في مزحته تلك. رأيته كثيرا في طريقه للحرم النبوي وهو يتمايل بمشيته يمينا ويسارا ليحكم ما ألقاه الزمن على كتفيه.. وكانت أحلى اللحظات إليه كما يبدو هي الاستناد على ما تبقى من جذع شجرة ينتظر غروب الشمس فإذا أذن المؤذن للصلاة غادر وكأنه يعد بلقاء أصبح من طقوسه اليومية. في صمت عم هاشم تسمع تمتمة تسبيحه التي تبدأ من أصابعه المعانقة مسبحته حتى لسانه منطلقة إلى السماوات العلى.

ستي "عزيزة" كانت الأحب إلي من الجيران. ولهذا فهي الوحيدة التي لا تسمع أمي حيال أوامر الذهاب إليها أي امتعاض. كانت كريمة تئد ضيق ذات اليد بما تحسن صنعه يداها. لم أر بيتا في نظافة بيتها الصغير الأنيق الذي ينتعش بماء البئر الموجودة في ركن فناء صغير مرات عديدة في اليوم خاصة خلال الصيف. مرة واحدة رأيتهما معا، هي وعم هاشم. كأنهما خلقا من بعض ولبعض، عشق سماوي يجلله احترام وافتداء. كنت مع فطرتي الملتصقة بالموت أتساءل كيف يمكن لأحدهما أن يعيش دون الآخر! وإذ لم يرزقهما الله بأبناء فقد استحبَّا قضاء الله حتى جاوزا الستين.. مدِّخرين ذلك حنانا على كل طفلٍِ عابر.. وعلى مجموعة كبيرة من قطط الشوارع التي وجدت لديهما مأوى.. ووجد عم هاشم أكثر من ستي عزيزة بهم سلوى ذات متعة خاصة. كان يقضي بعض الوقت وهو في عالم آخر.. يلقي بقطع اللحم إلى كل قطة بعينها.. وينهر من تتعدَّى في عتاب حينا وحزمٍ أحيانا.

سرى في الحارة خبر لم يكن ممكن التقبُّل في كل الاحتمالات.. واعتدَت النسوة لذلك متكآت يوسفية تزيد في التفاصيل وتنقص.. وتكتب أكثر مما تمحو. وهناك كانت كلمات "الخائن، قليل الخاتمة، الغدار" وغيرها تترامى إلى أذني لأول مرة. إحداهن بعد أن ملَّت صمتا ألقت بدلوها الذي غسل كل حديث سابق.. وأثار دهشات آلم بعضها أن يكون الخبر غير تقليدي في التعامل مع غدر الرجال..: "اللي سمعته إنها هي اللي سمحت له يتزوج..لا.. هي اللي زوجته"! واختلطت التمتمات مع تغيير أكواب الشاي. وبين التصديق والتكذيب غادرن لبيوتهن فقد آذن موعد عودة الأزواج بعد صلاة العشاء.. ومع ما وراء تلك العودة من واجبات شتى، فقد كانت تلك الليلة مهمة لأنها كانت ستحاول استصدار معلومات أكثر عن زواج عم هاشم.

ككلِّ أمور الدنيا.. عادت الحياة إلى رتابتها.. واستغرقت وقتا أطول في الوصول إلى بيت عم هاشم بعد زواجه.. ووقتا أطول قبل أن أجرؤ على طرق ببابه. لم أتصور أن أحدا آخر يمكن أن يفتح لي.. وحين طرقت.. أحسست أن شيئا ما قد تغير أيضا خلف الباب.. استغرقت ستي عزيزة وقتا أطول من المعتاد وحين فتحت الباب وجدت أن هالة النور التي تحيط بوجهها قد خبت بعض الشيء.. رسمت ابتسامة كادت أن تكون كما اعتدت واستلمت الإرسالية مني ولم تدعني إلى الدخول أو تعطني أي شيء كما كانت تفعل.. ولحظة استدارتي للمغادرة لمحت ذلك الوجه الذي غير اتجاه دوران ذلك الكوكب السماوي الأرضي. كانت سمراء إلى حد ما، شابة نسبيا، ولم أرها جميلة أبدا، ربما لأني لا أريد ذلك.. وعدت إلى بيت هاشم مرات ومرات.. وكان الأمر الواقع يشتد قبولا على كل شيء إلا ستي عزيزة والبئر. في إحدى المرات كدت أن أراهما معا. أقصد عم هاشم وستي عزيزة.. كان هو في طريقه للخروج إلى الحرم حين التقت عيناهما فاستدارت صارفة نظرها إلى الأرض. لا أدري لِم لم أر وجه عم هاشم كما كنت من قبل.. تغيَّر هو أيضا وأصبح أقل ترحابا وحلوى.. والميزة الوحيدة أننا تخلصنا من عادة حكِّ لحيته في وجوهنا.

وككلِّ أمور الدنيا.. التي تحسن التغيير أحيانا.. أو هكذا نظن، انفجر صوت بالحياة في منزل عم هاشم. ولدت زوجته الجديدة بنتا سموها عزيزة. قيل حينها إن عم هاشم هو الذي أصر على الاسم فيما ذكرت إحداهن، تبدو أكثر عدلا، أن زوجته الأخرى هي التي سمَّتها، اعترافا بجميل ستي عزيزة التي عاملتها كابنتها.. وأكثر. كنت من أوائل من طرق باب بيت عم هاشم بعد الحدث الجديد.. فتحت ستي عزيزة الباب بالسرعة والترحاب القديمين.. ولم ترخ عينها عن عم هاشم الذي كان في طريقه خارج المنزل.. أعطاني شيئا لا أذكره.. وابتسم ولم يحك لحيته بوجهي. عاد وجه ستي عزيزة لألقه ونضارته.. وتسللت بهدوء إلى سرير عزيزة الصغيرة.. ووضعت حبة حلوى تحت مخدتها.. وغادرت مسرورا.. بهذا الكائن الذي استطاع إعادة البسمات إلى مستقرِّها..

مرت الأيام وكبرت عزيزة.. وكل شيء.. إلا عم هاشم وستي عزيزة اللذين أوقفا عمرهما عند عزيزة.. التي كنت أراقب نموها منتظرا أن تصل إلى طولي لنلعب معا.. وحين بلغت الثالثة كنت قد أصبحت رجلا ودخلت المدرسة. ذات يوم اجتمع الجيران لدينا. أذكر أن ذلك كان في بداية الصيف وكان الحوش المكان الأمثل للقاء. وحين جاءت ستي عزيزة وعزيزة وأمها كان علي أن أبتعد.. رغم أن ستي عزيزة نادتني.. ولكن شيئا ما كان يحول بيني وبين أم عزيزة. لم يكن هناك من الأطفال إلا عزيزة وخالد الذي كان يكبرها بعام.. والذي أخذ بيدها عبر كل مكان غير بعيد عن أعين الحاضرات حسبما نبِّه عليه وعليها. كان الفرح في أوجه وكأني بالقمر قد نزل إلى أقرب ما يمكن إما ليستمع إلى أصوات الضحكات أو ليمنح الجلسة مزيدا من بريقه.. وطالت الجلسة عن المعتاد.. حيث كان للأخبار والذكريات متسع..

وفي خضم ذلك تسللت عزيزة وخالد إلى داخل البيت.. ويبدو أن أحدهما اقترح على الآخر لعبة أشد جرأة.. كانت هناك ثلاث درجات في بداية الدرج الموصل للأدوار الأعلى.. واستمتعت عزيزة كخالد بالقفز عبر الدربزان وكانت كل قفزة تعني قهقهة من كليهما وإصرارا على الاستمرار.. ومع بعض التحدي أو بحثا عن الاستقلالية.. ابتعدت عزيزة عن خالد.. لم يلاحظ أنها لم تعد إلى الحوش.. وفي خضم لحظات أولى من التفكير.. رأى أمامه شيئا يسقط وارتطاما.. كانت عزيزة قد صعدت إلى الدور العلوي.. وكعدم إحساس الملائكة بالمسافات، أو لعدم لقائها بالموت من قبل، فقد ظنت أن نتيجة القفز واحدة.. وفعلت.. وفعل..

انقلبت الدنيا واختلطت أصوات النواح والخوف والأسى واللوم.. كان الأقسى هو في كيفية إبلاغ عم هاشم في أن امتداد حياته الذي ابتدأ متأخرا قد غادر قبله.. وكان على أبي أن يتحمل ذلك كما كان عليه أن يتحمل التحقيق المرير مع الشرطة التي كادت أن تضع ذلك المرافق المرتعب الصغير موقع المتهم المتعمِّد.. أنا كنت قريبا من ذلك الكثير لكني لم ألق نظري أبدا على عزيزة وهي غارقة في موتها في الدهليز.. لم أكن لأصدق أن من في جمال عزيزة وعمرها يموتون.. وجوه النساء كانت ترسم نفس ملامح المرتعدة المرتعبة عدا ستي عزيزة التي ابتعدت قليلا وذرفت دمعة سطَّرت فيها كل ما يعنيه الأسى فقد كانت تعرف أن نهاية عزيزة نهاية كل شيء. أما أم عزيزة فقد التقت نظراتها بنظراتي وتمعنت في وجهها المغرق بالصوت والدموع ولاحظت أنها كانت أجمل مما قدَّرت. رأيت وجه أبي والحزن والألم يقطران منه ويعتصران بقية الصبر، ورأيت وجه أمي وهي تفكِّر في حجم المصيبة التي حلَّت وما سيبقى من اللوم.. وشعرت بالموت يصرُّ على البقاء بيننا رغم أنه أدى مهمته.. ولكنه يحرص على التأكُّد من بقاء آثاره ودقة مفعوله.. لن أدور في الحديث عن كم من مرة بكيت على عزيزة.. وكم مرة قبَّلت موقع سقوطها، ولا عما خلقته تلك الحادثة لي ولنا.... وما أصبح الدهليز يعنيه من نقطة تقاطع يوميَّة مع الموت. خالد فقط الذي ظل خارج دائرة انسكاب الحزن تلك.. وظلَّ لسنوات يسأل عن عزيزة.

الحادثة تلك كانت نقطة في تاريخ الحارة مع الحزن والفرح.. أو ربما في علاقتي بهما. لم أر ستي عـزيزة ولم أدخل بيت عم هاشم بعدها أبدا... ولم أسامح بيتنا القديم على أن عُرضت فيه أول مسرحية للموت وبُثَّت على كل قنوات الفقد.. لا أدري أيضا ما حل بأم عزيزة التي كانت خارج إطار الحديث والأسف دائما..  استعاد الزمن على عم هاشم أضعاف ما منحه في فترة التوقف.. وحين رأيته يعبر في طريقه إلى الحرم متكئا على مسبحته وقد خلت منه آخر الآمال تحاشيت أن يراني.. مع أنني تمنيت أن أقبل يديه.. وأن يحك لحيته بوجهي!