ليس مقبولا ولا منطقيا أن يقلل أي تحليل منصف من وجاهة وأحقية جزء من شعب البحرين في المطالبة بإصلاحات في بلده وفق الأنظمة والقوانين المعمول بها. وهذا ما أيدته وأعلنته حكومة البحرين حينها ورأت صوابيته ومعقوليته، وبالتالي فإن الرأي القائل بأن المحرك للاضطرابات هو العامل الخارجي فقط لا يعبر عن الواقع ويتجاهل ما تقر به الحكومة وتعلنه المعارضة. ولكن، في الوقت نفسه، فإن تجاهل وتجاوز المؤثر الخارجي لا يساعد على قراءات الأحداث بصورة موضوعية تعين على الفهم وتبحث عن المخارج من الأزمة، بالإضافة إلى أنه إنكار لترابط مصالح جهات خارجية متعددة لها حضورها على الساحة البحرينية.

وبغض النظر عن حقيقة الاتهامات الموجهة إلى المعارضة البحرينية وتأثرها بالقرار الإيراني فإن المتفق عليه بين المتابعين لهذا الواقع أن البحرين منطقة حساسة "للالتهابات" الطائفية، تنخفض حرارتها حين تبرد رياح الشاطئ الشرقي للخليح وتعاودها "الحمى" حين ترتفع درجة حرارة تلك الرياح.

وقد يكون من المفيد في قراءة الأحداث أن نذكر بسياسة عرفت بها إيران خلال العقود الماضية، وهي سياسة "تحريك الجبهات الداخلية" في الدول المناهضة لتحقيق مكاسب إقليمية حين تأتي الفرص. هذه السياسة اتبعتها إيران أيام الغزو السوفيتي لأفغانستان لأنها أقل "تكلفة" مقارنة بتكاليف الدخول في الصراع المسلح. فقد استطاعت إيران أن تجعل من الأحزاب والقبائل الشيعية في المسرح الأفغاني رقماً حاضراً وقت جني المكاسب حين تراجعت القوة الغازية وبدا تقسيم "الغنائم". كانت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها يخوضون الحرب ضد الاتحاد السوفيتي من خلال أحزاب "المجاهدين" ومن يقف وراءهم بالدعم المالي والإعلامي وغيره وكانت إيران تكتفي بالمراقبة ودعم الموالين لها بالمساعدات اللوجستية التي تعينهم على حدود الحركة والمحافظة على كيانهم دون إرهاقهم أو إضعافهم في ماكينة الحرب القتالية. وحين انهزمت العسكرية السوفيتية وحانت لحظة الغنائم، برز النشاط الإيراني على الساحة وجاءت الأحزاب المتحالفة معها للمشاركة في "ترجيح" موازين القوة وأصبح لها حظوظها في العملية السياسية الأفغانية. وحين برزت طالبان، بكل أخطائها وتمثيلها المشوه للإسلام، قوة منافسة للمشروع الإيراني في المنطقة لم تخض طهران معارك مسلحة ضدها واكتفت بتنشيط الحلفاء في الداخل وتركت غيرها يخوض المعارك.. ولم يظهر دورها إلا عندما دخلت الولايات المتحدة الساحة ضد طالبان عام 2001م فإذا بإيران تقدم "التسهيلات" الخفية للقضاء على نظام طالبان الضد الاستراتيجي في المنطقة.. وتكررت السياسة نفسها ـ سياسة استثمار الوقائع ـ على المحيط الجغرافي وتشجيع القوة المناهضة للعدو الإقليمي للقضاء عليه أو إضعافه باعتبار أن "العدو" الدولي مهما طالت العداوة معه فمصيره الخروج. ولا بد من الإشارة إلى أن هذا الدور لم تكن تلعبه إيران الرسمية بل أسند إلى أذرعها شبه الأهلية القادرة على التواصل مع الفعاليات الشعبية دون تحميل الدبلوماسية الرسمية ما يترب على هذا الدور من مخالفات لا تتناسب مع العلاقات الدبلوماسية بين الدول.. ويلاحظ المتابعون للشأن البحريني أن سياسة توظيف "القوة الخفية" ظلت فاعلة في تحريك المعارضة، على المستوى المعنوي على الأقل، روحيا وإعلاميا. وزادت نبرة هذا التدخل في إطار استثمار أجواء الثورات العربية التي اندلعت مع مطلع هذا العام.

والسؤال المطروح الآن بصورة ملحة: ما هو تأثير دخول قوات درع الجزيرة إلى البحرين على الموقف الإيراني الرسمي من الأحداث؟ أو بصورة أخرى: كيف ستواجه إيران، عمليا، دخول دول مجلس التعاون الخليجي في صلب المشكلة البحرينية وعدم الاكتفاء بالتأييد والدعم المالي والسياسي؟

هل ستتجه إيران إلى دفع المعارضة إلى المزيد من التدخل والتشدد والتمسك برفع المطالب التي ترى حكومة البحرين أنها تخرج المشروع الوطني من حدود الإصلاح المقبولة إلى الالتقاء مع الأهداف الخارجية؟ وفي المقابل هل يمكن بالدبلوماسية أن تسهم إيران في تهدئة الأوضاع على الساحة البحرينية خدمة للمطالب الإصلاحية وفي إطار شعار "حفظ أمن الخليج لأهله"؟.

وفي كل الأحوال البحرين الآن ـ بكل تعقيدات واقعها على المستويين الرسمي والشعبي ـ تطرح وحدة دول مجلس التعاون على المحك وتختبر صلابة موقف الدول وتستدعي نظرات جديدة لنظام المجلس ـ على المستوى الأمني ـ الذي كان يرتكز على التعاون لدفع التهديدات الخارجية، ولم تكن الأوضاع الداخلية لدول المجلس تشكل تحدياً إذ إن الأجهزة الأمنية كان بينها من التعاون والتنسيق وتبادل المعلومات ما بلغ درجة عالية من التناغم والانسجام لكنها المرة الأولى التي تشترك الدول مجتمعة ـ من خلال درع الجزيرة ـ لمعالجة قضية أمنية داخلية. وإن كان سببها تدخلا خارجيا، وبهذا تطرح أحداث البحرين واقعاً جديداً سيفرض نفسه على المجلس ونظامه.