-1-
خالد محمد خالد (1920-1996) المصلح الديني والسياسي المصري، كان هو المفكر الوحيد، الذي دعاه عبدالناصر إلى زيارته في بيته عام 1962 للنقاش حول الديموقراطية، في زيارة امتدت لساعات حتى مطلع الفجر، خرج بعدها خالد موقناً أن عبدالناصر لن يأخذ بالديموقراطية، وهو ما حصل. كذلك، فإن من بين أسباب أهمية خالد، كمصلح سياسي، تتأتى من كونه قد عاصر ثلاثة رؤساء (عبدالناصر، والسادات، ومبارك). وحاول مع هؤلاء الثلاثة إقناعهم ـ بالتي هي أحسن ـ بالنهج الديموقراطي، إلا أنه لم يفلح. فقد كان لكل رئيس من هؤلاء، أسبابه الخاصة، في عدم التطبيق الديموقراطي. وكان آخر هؤلاء الرئيس مبارك، الذي أنشأنا بينه وبين خالد الحوار التالي حول النهج الديموقراطي. ولو استمع، وفهم، وطبّق الرئيس مبارك ما أشار إليه خالد، لكانت مصر ـ في ظننا ـ في خير عميم. فالرئيس مبارك كان يخطو سياسياً (محلك سر)، واكتفى بحرية الصحافة. ولكن حرية الصحافة، ليست هي كل الديموقراطية، وإنما هي خطوة في مسيرتها الطويلة. ويعترف خالد، بأن الرئيس مبارك رسَّخ وعمَّق حرية الصحافة، وبالغ في هذا الترسيخ، وفي هذا التعميق، إلى درجة تسيء إلى الديموقراطية. لذا، فإن الديموقراطية في عهد مبارك تظل "ديموقراطية متواضعة"، لأنها ذات نواقص أكثر من الثوابت، لأسباب كثيرة.
ومن هنا، كانت الديموقراطية في عهد عبدالناصر ديموقراطية "ديكورات"، وفي عهد السادات ديموقراطية "إجراءات"، وفي عهد مبارك ديموقراطية "زواجر".
-2-
ومن خلال عدة خطابات، ألقاها مبارك في الثمانينات من القرن الماضي، ومن خلال عدة مقالات، كتبها خالد في جريدة "الوفد" في الفترة نفسها، تشكَّل الحوار التالي بين الحاكم والمفكر، وفيه نقرأ بعض إرهاصات ثورة 25 يناير 2011، وكأن خالداً ومباركاً كانا يتنبآن بها، منذ عشرين عاماً تقريباً:
- الرئيس مبارك: إني أسأل نفسي الآن كثيراً، كم من الوقت تستطيع مصر أن تتحمل هذا العبث.. عبث المعارضة؟ كم من الوقت، يستطيع الحكم تحمل هذا، فإن كنت قد تحملت الكثير، فإن غيري لن يتحمل؟
- خالد: يا ويل مصر من هذا الغير، بل يا ويل هذا الغير من مصر. لا نريد أن نُصدِّق أن مباركاً يمكن أن يتخلّى عن الديموقراطية، ويُسلِّم عنقها لعصابة جديدة.
- مبارك: أنا لم أضق ذرعاً بالديموقراطية، ولكني ضقت بهذه الممارسات، التي تريد أن تئد الديموقراطية.
- خالد: سامحك الله.. إن الديموقراطية لا يمكن أن تنفصل عن الممارسة. ثم ما هي الممارسة، أليست هي العمل والتجربة، وبالتالي فهي الصواب والخطأ.
- مبارك: أحزاب المعارضة، تركت مشاكل الشعب، وتفرّغت لعمليات الثأر، والانتقام المتبادل.
- خالد: الرئيس يتنكر للأحزاب، فما هو البديل؟
- مبارك: البديل في علم الغيب.. لكنه مخيف وخطير!
- خالد: يمكن أن الرئيس علم بذلك، من خلال وسائل الاستقراء والاستنتاج. ومهما كان مصدر علمه، فإن أقدس واجباته اليوم، أن يقف مع الشعب، ضد هذا "المخيف الخطير" كما وصفه، وضد تيار الزاحفين. وهذا يقتضيه، ويُحتِّم عليه، أن يكشف للشعب عن حقيقة هذا "المخيف الخطير"!
- مبارك: علينا أن نُعمِّق الأداء السليم لسلطات الدولة، التي هي سلطات الشعب.
- خالد: متى تكون سلطات الدولة هي سلطات الشعب، وما السبيل السليم إلى أداء هذه السلطات؟
-3-
ثم ينتقل الحوار بين مبارك وخالد إلى الدستور وتعديله، في عام 1986- 1987، وهو ما جرى وتمَّ في 19 /3 /2011، بعد أكثر من عشرين عاماً، وبعد أن رحل خالد في 1996، وتنحّى مبارك في 2011. وبذا، ضاعت الفرصة، والتوقيت المناسب، قبل أن ينفجر البركان. ولكن البركان انفجر في 25 /1/2011. وكان في ماضي السنوات هذا الحوار:
- مبارك: إن البعض يتحدث عن وجوب تعديل بعض مواد الدستور، وتعديل بعض القوانين (كقانون الطوارئ). فلو كان الأمر يحتل أولوية متقدمة في قائمة العمل الوطني، لما ترددت في فتح هذا الباب على مصراعيه!
- خالد: دستورنا كثير المثالب، قليل المناقب. وهذه القوانين لا تستحق التعديل فحسب، بل تستحق النفي، وتؤرث البغضاء.
فكيف يكون هذا الدستور صالحاً، وهو يحرم الأمة من حق اختيار رئيسها، في الوقت الذي يمنحها حق اختيار نوابها؟
وكيف يكون دستوراً صالحاً، وهو يُطلق مدة الرئاسة بلا حدود؟
فكيف يكون دستوراً صالحاً، لا يستحق التعديل أو التغيير، وفيه كل هذه الكبائر، والموبقات؟
- مبارك: كل بلد تحكمه عاداته، وتقاليده، وتراثه. إن للديموقراطية أشكالاً وصوراً متعددة، تختلف من بلد لآخر. وإن الممارسات السياسية التي تصلح لبلد ما، قد لا تصلح للبلدان الأخرى. كما أن الممارسة الديموقراطية في كل بلد، يجب أن تتصف بالمرونة. وما أكثر التجارب التي انتكست واهتزت، لأن الشكل طغى فيها على المضمون، وأن المضمون كان بعيداً عن الأصالة. إننا ندعو أخيراً، إلى قيام حلف قومي منيع، يصون الحرية، ويحارب التطرف والإرهاب.
- خالد: أما قيام "حلف مقدس" لدحض التطرف والإرهاب، فنعم. وألف مرة، نعم. أما قيام حلف لصون الحرية، فإنه يتطلَّب أولاً، وثانياً، وأخيراً، أن نتفق على مفهوم الحرية. أما إننا نريد حرية بلا حرية، فهذا بحق، الصرخة في واد، والحرث في البحر، والكتابة على الماء.
-4-
وكان هذا الحوار، منذ أكثر من عشرين عاماً، الصرخة في واد، والحرث في البحر، والكتابة على الماء. ولولا ذلك، لكان الرئيس مبارك، من الذين يستمعون القول، فيتبعون أحسنه. ولكانت مصر، قد تجنبت ما حصل لها الآن، من مقتل أكثر من ستمئة من أبنائها، وحرق ودمار الكثير من مرافقها، وإفلاس الكثير من شركاتها ومصانعها.
وتظل أكثر السياسات حكمةً وصواباً، ليست في اتخاذ القرار المناسب فقط، ولكن كذلك في توقيت هذا القرار.
فلاعب الكرة الجيد، هو من يُرسل الكرة في التوقيت السليم.