هكذا بدأ كل شيء. عندما انتصبوا إجلالا لعزيمة الشباب ومكتسبات الثورة في تونس وفي ميدان التحرير وكالوا لهم المديح حتى ثملنا، وما كنا نعرف أنهم إنما نهضوا لأداء مهمة وتحقيق مآرب.
الذي يظن أن الغرب يأبه لموت الآلاف من الليبيين أو غيرهم من الملونين وأبناء العالم الثالث؛ فهو مخطئ، بل أعمى لا يرى ما يجري حوله. تموت الآلاف كل يوم حول العالم وفي أفريقيا ولم يذرف عليها الغرب دمعة.
مئة صاروخ توماهوك من الغواصات والسفن الأمريكية، وأعمدة الدخان التي بعثتها نيران الحقد في السماء تقف شاهدا على العنف، ونافيا مزاعم الرحمة وحماية المدنيين العزل التي يتغنى بها الغرب... محب السلام. في أول يوم، وكأنما أعدوا عدتهم مسبقا، تنطلق أدوات القتل على مدار الساعة من القواعد والسفن والغواصات الأمريكية في عرض البحر، ومن الأراضي الأوروبية، من فرنسا وإسبانيا وبريطانيا، تضرب الأرض، وتقتل بلا شك مدنيين أبرياء. سيبقى القذافي أياما أخرى في السلطة ويدفع أبناء ليبيا الثمن من دمائهم وأرواحهم. ويبقى الشعب الليبي هو الخاسر في كل الأحوال. الكل يسعى لاقتسام الغنيمة. فرنسا لا تريد القيادة البريطانية، والولايات المتحدة لا تدعم حماس الفرنسيين واندفاعهم، ويسعى ساركوزي لحصد قليل من المكاسب يدخل بها انتخابات فرنسا القادمة، والصناعات الحربية تدفع باتجاه تدمير ما يملكه النظام الليبي من أسلحة وآليات، لتأتي لاحقا ومعها برامج التسليح بأموال النفط، أو ما تبقى منها بعد نهبها.
تجاوزت آلة الحرب الأمريكية الأوروبية كل الصلاحيات التي منحها لها قرار مجلس الأمن، وليست هذه دعوانا، لكن ما يقوله عمرو موسى أمين جامعة الدول العربية، وهو الخبير بنوايا الغرب في المنطقة العربية، وهذا كذلك ما تؤكده الحكومة الروسية، ويثني على تأكيده الاتحاد الأفريقي. تغير الهدف وأصبح تدمير الآلة العسكرية وقدرة الدفاع الليبي أولوية.
وبعد الفراغ من كتابة هذا المقال جاء خبر مثير على شاشة البي بي سي، استوجب هذه الإضافة "عمرو موسى يتلقى مكالمات هاتفية من كل الزعامات الغربية تحثه على تبني لغة أكثر تأكيدا على وحدة الصف"، ثم خرج عمرو موسى بعدها بكلام لين يحث القوات الغازية على تجنب المدنيين في حملتهم العسكرية.
في عجلة من أمرهم صاغوا قرار مجلس الأمن، وليس في الوقت متسع لذكر التفاصيل التي تقيد الأعمال الحربية أو الإشارة إلى تحديد الأهداف المحتملة. لا نشك في أنهم تركوا لأنفسهم متسعا من الحرية في الزمان والمكان، وفتحوا أطراف القرار بما يخولهم تنفيذ مخططاتهم الاستعمارية تحت مظلة مجلس الأمن. يوم الاثنين الماضي دار الجدل في أروقة مجلس اللوردات البريطاني حول تفسير بنود القرار، وما إذا كان يخولهم السعي وراء رأس القذافي. ولم يخل النقاش من مواضيع مثل استخدام اليورانيوم المنضب، الذي تقرر استبعاده في هذه الحرب. هل هذا سيمنعهم من استخدام السيزيوم المنضب، ومخلفات الصناعات النووية الأخرى؟
بالأمس وحتى موعد التصويت في مجلس الأمن بدت مواقف الولايات المتحدة الأمريكية مترددة في مشاركة المجتمع الدولي (بريطانيا وفرنسا وكندا) خوض الحرب على ليبيا، وكان ذلك تضليلاً، فصواريخ التوماهوك كانت أول الزاحفين إلى الميدان، وانطلقت كالكلب المسعور تنهش في جسد الأمة العربية، لا ترحم ولا تفرق، ويسقط المدنيون، ويقدمون هم التعازي بعد ذلك لأسر الضحايا، ونحن ننسج لهم الأكفان البيضاء، ونقف على الجانب مع المتفرجين.
واليوم يردد الأمريكيون وحلفاؤهم أنهم لن يدخلوا في حرب برية لنطمئن... بلى، فهذا مكر وخداع. من سيمنعهم غدا لو قرروا أنهم بحاجة إلى الزحف البري والدخول إلى عمق الصحراء، كما فعل الطليان أيام المختار، لاصطياد القذافي وأعوانه أو لحفظ الأمن الذي أخلوا به كما فعلوا في العراق وأفغانستان من قبل...
هل يتكرر المشهد؟ ويقدم الليبيون باقات الورد لقوات التحرير عندما يطؤوا التراب الليبي المحرر، ترحيبا، كما توهم قبلهم بعض العراقيين! وهل ستبقى قوات التحالف إلى أمد غير منظور؟
هل يصيب ليبيا التقسيم إلى شرق وغرب كما انقسمت فيتنام وكوريا؟ كل ما يهمهم اليوم هو الشرق الغني بالنفط، فهل يكفي تحرير الشرق وتشكيل حكومة موالية؟! وما حجم الموالاة التي يرضى عنها التحالف؟.
وهذا الصنم الليبي الذي برر للغرب، بغطرسته وبجنون العظمة الذي يتملكه؛ الدخول إلى بلاده الآمنة وهم يحملون السلاح، يقتّلون إخوانه الأبرياء وأبناء جلدته، لم يعتبر ولا حتى راودته ذكرى ما وقع على صدام حسين.
لا يمكن لعاقل أن يضحي بكل هؤلاء البشر في سبيل بقائه في السلطة، بعد أن خرج عليه أهله ومواطنوه وأعلنوا أنهم لا يحبونه ولا يريدون بقاءه. أم أنه "لا يريهم إلا ما يرى".
هل نتعلم! والتربة خصبة لزراعة الثقة والمصالحة، هل نتعلم والظروف مهيأة لوحدة عربية بشكل أو بآخر، وهل حان الوقت لجمع الكلمة تحت راية واحدة تحمي بيضة الأمة، لكن بالتأكيد ليس على طريقة جامعة الدول العربية. هل نستثمر الرغبة والحماس لبناء أمة بما تعنيه الكلمة؟ ونحن في أمس الحاجة.