في مقابلة أجرتها قناة العربية الإخبارية، مع الساعدي القذافي، وليبيا تحترق، سأله المذيع، لماذا تم إهمال بنغازي تنموياً، والتي خرجت من سيطرة القذافي؟ أجاب الساعدي والحسرة تخيم على تقاسيم وجهه، بأنه فعلاً تم إهمال تلك المنطقة تنموياً، وقال، والحسرة تعتصره، ماذا أفعل؟ لقد طالبت ببناء مدينة اقتصادية في مدينة بنغازي، وطلبت من متخصصين عمل دراسات متكاملة للمشروع، وأحضرت خبراء من شركة إعمار الإماراتية؛ ولكن المشروع تم تأجيله، بحجة عدم الحاجة له الآن.
وبعد اندلاع الثورة هناك، تم إعلان رزمة عاجلة من الإصلاحات منها رفع مرتبات الموظفين 150%، ولم يجد ذلك نفعاً. السؤال الذي يطرح نفسه، هو: إذا كانت ميزانية ليبيا تتحمل رفع مرتبات شعبها 150%، فلماذا لم يتم رفعها قبل سنوات وبالتدريج وحسب ارتفاع مستوى غلاء المعيشة؟! أي لصالح من تم تكديس الاحتياطيات المالية في خزائن الدولة، ومواطنو البلد، تضغط عليهم متطلبات الحياة المتصاعدة، وهم بأمس الحاجة لها، حتى أعوزتهم الحاجة وانفجروا، بتلك الطريقة المأسوية؟، وكذلك حدث هذا مع حزم الإصلاح التي وعد بها كل من الرئيسين المخلوعين حسني مبارك وزين العابدين بن علي، لشعبيهما، وتم رفضها منهما.
أي إن الإصلاح مهما عظم شأنه إذا لم يأت في وقته المحدد والمطلوب، فسيكون كعدمه، إن لم يحدث أثراً عكسياً، واعتبرته الشعوب كعظم يرمى لإخراسها، وهذه إهانة لا يقبلها أي شعب حر على نفسه. إذاً فتأخير عملية الإصلاح عن وقتها المطلوب، يصبح لا محالة، كدواء السرطان، الذي يوصف للمريض بعد أن يستشري المرض في جسده، فلن يجديه نفعاً، ولكن سيطيل معاناته مع المرض لبعض الوقت لا غير.
من هنا نفهم - وكما هو الحال في المملكة- أن السياسة هي عملية إصلاح دائمة ومواكبة لحاجيات الناس ومتطلباتهم، المادية والمعنوية. فقد أورد مؤسسو الولايات المتحدة الأميركية، في عام 1879م، في بداية وثيقة إعلان الاستقلال الأميركي النص التالي "ونحن نؤمن بأن الحقائق التالية هي من البديهيات، وهي أن جميع البشر قد خلقوا متساوين، وأن خالقهم قد حباهم بحقوق معينة لا تنتزع، من بينها حق الحياة، والحرية. والسعي في سبيل تحقيق السعادة. ولضمان هذه الحقوق قامت الحكومات بين البشر، مستمدة سلطانها العادل من رضا المحكومين." وعلى هذه المفاهيم الإنسانية النبيلة تأسست الدولة الحديثة، التي أصبحت تديرها حكومات لا تصل لدفة الحكم، إلا من خلال برامجها الإصلاحية، التي تلبي متطلبات مواطنيها الحياتية وتراعي حاجياتهم الإنسانية. وعليه فمهمة الحكومات ليست فقط تلبية متطلبات مواطنيها الحياتية اليومية فقط، مع أهميتها؛ ولكن أيضاً تراعي حاجياتهم الإنسانية من عدل وحرية ومساواة. فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان؛ كما ليس بالحرية وحدها يحيا الإنسان.
إذاً ما علة الحكومات التي تقف صخرة كأداء أمام سعادة شعوبها، ورعاية مصالحهم الأساسية من مادية ومعنوية، حتى اضطرت بعض مواطنيها لحرق أنفسهم، أمام القهر والجبروت الذي يتعرضون له يومياً، أو حرق شوارعهم ومدنهم، كما يحدث الآن في ليبيا؟ علتها كما أراها، هي إما أن تكون حكومات يسيطر عليها فئة خاصة وقليلة من المنتفعين، وهم خاصة الرئيس وقيادات حزبه المتنفذون، كما حدث في مصر وتونس، وإما أنها حكومات ترهلت إدارياً ورقابياً، كما في ليبيا واليمن بحيث أصبحت البرامج التنموية هناك، لا تعدو عن كونها حبرا على ورق، تعلن بوسائل الإعلام الرسمية ولا تشاهد على أرض الواقع.
ومن المستغرب أن ما ذكرناه من أنظمة أعلاه قد بذرت ما تبقى من ميزانياتها على قواتها الأمنية والعسكرية، على حساب التنمية الحقيقية لشعوبها، وقضت جل وقتها، في مغازلة دول الغرب الكبرى، طمعا في كسب رضاها، والاعتراف بها كحكومات حديثة ومسالمة، على حساب رضا شعوبها واعترافهم بها، مما جعل نقمتهم عليها أشد شراسة ونكالا. واتضح أن هاتين الوصفتين، الأمنية والاعتراف الدولي، هما وصفتان قاتلتان، قد سرعتا في نهاية هذه الأنظمة، ولو أطالتاها لبعض الوقت. حيث إن الدول الغربية هي أول من طالب بتنحي هذه الحكومات استجابة لمطالب شعوبها، وذلك لكسب رضا شعوبها وشعوب المنطقة، كما أن جيوشها وقفت مع مطالب الناس وحمتهم، بينما قيادات الأجهزة الأمنية ترددوا في استخدام العنف المفرط ضد شعوبهم، خشية القصاص الشعبي منهم، أو محاكمتهم دولياً كمجرمي حرب.
إذاً فقد أثبتت هذه الأحداث الدامية والمؤسفة التي جرت وتجري في عالمنا العربي، أنه لا أمن وطني ولا أمن سياسي، إلا بالإصلاح ثم بالإصلاح ثم بالمزيد من الإصلاح، حيث الإصلاح إما أن يأتي من أعلى أو من أسفل. والطبيعي بالإصلاح هو أن يأتي من أعلى، وإن لم يأت أو تأخر، فهو لا محالة سيأتي من أسفل، وبشكل دامٍ ومرتفع التكاليف إنسانياً ومادياً، فالحياة الحديثة تتحرك وتتطور بشكل متسارع ومستمر، وما كان إصلاحا بالأمس قد يتحول لفساد اليوم، إذ تتجاوزه متطلبات الحياة الجديدة وتعقيداتها، وما يكون بالأمس غير ضروري أو ملحٍّ، فقد يكون اليوم ضروريا وأكثر إلحاحاً. فالتغني بأمجاد الماضي، أصبح عند الشعوب، جزءا من الماضي، فيجب عدم التركيز عليه، والتفكير الجدي بأمور حياة الناس اليومية ومستقبل فلذات أكبادهم، الذي تحول بالنسبة لهم همّا لا يضاهيه هم آخر، مهما علا قدره أو جل شأنه، فالإنسان الحي ابن يومه، والماضي للأموات، فمن شاء أن يخطب عن الماضي فقط، فليذهب للأموات في مقابرهم ويخطب بهم.
وقد أثبتت المملكة العربية السعودية شعباً وحكومة أهمية الإصلاح الدائم والمستمر للأمن الوطني والسياسي، والذي يأتي عبر قنواته العلوية الطبيعية، وخير شاهد على هذا، جمعة 11 مارس. حيث فوت الشعب السعودي على من يريدون الشر أن يحيق به الفرصة، وردها إلى نحورهم، خاسئين خاسرين. وهذا ليس بجديد على التلاحم الصادق بين شعب المملكة وحكوماته المُصلحة المتعاقبة، حيث الإصلاح هو نهج المؤسس المغفور له الملك عبدالعزيز وبوصلته التي كانت تحركه وأسّس على مؤشرها كياننا الشامخ الحصين الذي ننعم في ظل أمنه وخيراته.
وما مسيرة الإصلاح النشطة التي يقودها خادم الحرمين الشريفين، ونائباه إلا امتداد لنهج مسيرة المؤسس الإصلاحية، ولكن تسارع عجلة الحياة الحديثة وتزايد متطلباتها، جعلها تظهر على السطح وبشكل ملموس للقاصي والداني، ولذلك فإن من الواجب علينا رعاية وحماية منظومة الإصلاحات التي يقودها خادم الحرمين الشريفين، والتسريع في تنفيذها للتأكد من وصولها لأهدافها المأمولة وفي الوقت المطلوب، من غير تأخير أو تقصير، وذلك بإنشاء هيئة عليا تتابع تنفيذ منظومة الإصلاحات المادية والإدارية والمعنوية التي أمر بها قائد مسيرتنا الإصلاحية المباركة، وتكون تابعة له مباشرة. فلا يجب أن يكون هنالك أي تهاون أو تسامح مع أي مؤخر أو معطل أو واقف في وجه عجلة إصلاحات ملكنا الصالح؛ فالمسألة مسألة أمن وطن وحياة شعب، لا يجب التلاعب أو التساهل فيها، فالإصلاح هو أساس أمن الأوطان، واطمئنان الشعوب.