مع توافر مجالات التقنية في العالم العربي، وتحول هذا المجالات من مجالات سلبية إلى مجالات إيجابية أوسع وأرحب، بحيث أعادت صياغة الواقع من جديد من خلال تأثيرها الكبير في إعادة بلورة الوضع العربي خاصة فيما يخص جوانب الثورة الاتصالية الحديثة، أو الثورات الفضائية منذ حوالي العقد أو أكثر، وهي التي استطاعت أن تغير في بنية التفكير من إطار تقليدي مغلق على الذات الثقافية والحضارية إلى إطار أكثر انفتاحاً واختلافاً حتى على المستوى الفردي للكثير من الأشخاص فضلاً عن تحول الكثير من التيارات التي كانت تتسم بالتقليدية وترى خطورة التقنية والفضائيات على وجودها الفكري والاجتماعي... أقول: مع توافر مجالات التقنية وتأثيرها على الواقع العربي يبقى السؤال حول رؤيتنا الثقافية للتقنية مطروحاً على أكثر من سياق: الاجتماعي والاقتصادي والفلسفي والديني.

إن تصورنا العام حول التقنية هو مجرد كونها مجموعة من الآلات الجامدة تعمل بإرادة الإنسان الذي يستخدمها. هذا صحيح من الناحية المبدئية إذا ما كان تعاملنا معها لا يتعدى الجانب الوظيفي من وجود التقنية في حياة الناس، لكن هذه التقنية من جهة كونها وظيفية، فإنها تعيد تشكيل الكثير من عاداتنا السلوكية التي من الطبيعي أنها سوف تعيد تشكيل واقعنا، بحيث تتحول من كونها آلة صامتة إلى آلة منتجة. لقد تحولت التقنية ذاتها إلى أيديولوجيا فاعلة على المستوى الحياتي. الواقع التقني يعيد صياغة الكثير من القيم من خلال فرض قيم جديدة تتناسب مع وجودها. إنها اشتغال الموجود بالموجود لتصبح ميتافيزيقيا للوجود الآني.

في الثقافة العربية كان الاشتغال الثقافي "للحدث التقني" وتحوله إلى "أيديولوجيا تقنوية" ضعيفا وما يزال. المفكر محمد سبيلا ربما كان الوحيد الذي اشتغل عليها من الإطار الفلسفي والثقافي. كتب في المجلة العربية في عددها 205 نوعاً من التصور الفلسفي للوجود التقني، ليس على اعتبار "أنها مجرد أدوات وأجهزة ومخترعات محايدة، لا تحمل في طيها ومعها ثقافة ونظرة للعالم وتفرض على الوسط الذي تظهر فيه، وعلى المتعاملين معها نمطاً معيناً من السلوك، بل علاقة معينة ومحددة مع الأشياء ومع الكائن عامة، ناهيك عن علاقة التقنية بالسياسة، وتلازمها مع نوع من الشرعية السياسية، وتشكيلها لطبيعة النظام السياسي، وتحديدها لنمط السلطة، وعلاقتها بما سمي بالكليانية السياسية أو بالاستبداد السياسي. أما البعد أو الأبعاد الفلسفية والميتافيزيقية للتقنية فهذا أمر يكاد يدخل في عداد ما يستحيل تصوره". ويقصد هنا في إطار التصور العربي، ولعل تأثيرها في الثورات السياسية العربية الحديثة في أكثر من دولة، أعاد النظر إلى هذه التقنية، خاصة في مجالها الاتصالي أو التفاعلي.

في إطار الفلسفة الغربية كان التفكير في مسألة التقنية مبكراً، ومنذ بدايات القرن الماضي مع عدد من نقاد الحداثة. ربما كان مارتن هيدجر أهم الفلاسفة في هذا الجانب، ونقلاً عن محمد سبيلا في نفس الموضوع، فقد" أصبحت مسألة التقنية مسألة مركزية في فكره منذ الثلاثينات. فالتقنية في نظر هيدجر ليست (شيئاً) تقنياً بل هي موقف وميتافيزيقيا، أي نمط لعلاقة الإنسان بالأشياء المحيطة به، لدرجة أنها هي ما يحدد العصر ويوجهه ويحكم أفقه. ويذهب هيدجر إلى حد اعتبار التقنية بمثابة ماهية للحداثة وللعصور الحديثة برمتها"، وهنا يوضح محمد سبيلا أنه عندما نقول: "بأن هذا العصر هو عصر التقنية فليس ذلك لأنه عصر حافل بالآلات والتقنيات وطافح بمظاهر التقدم التكنولوجي، بل لأن الأشياء والتقنيات والمخترعات هي التي تستقى وتأخذ دلالتها من الماهية التقنية للعصر الحديث. وسيطرة ماهية التقنية تعني سيطرة القوة وإرادة القوة بل إرادة الإرادة أي إرادة القوة الخالصة التي لا تستهدف إلا الفعالية والتأثير والتصريف المستمر، اللامحدود للقوة، كأفق دلالي للعصر الحديث برمته"، واضطراري هنا إلى النقل المتكرر من الدكتور محمد سبيلا عائد إلى قلة الكتابات العربية الفكرية في هذا المضمار.

إن سؤال التقنية هو سؤال جوهري في الفكر المعاصر، ذلك أن فاعليتها الثقافية تكاد تكون كبيرة جداً إلى الدرجة التي يمكن وصف العالم الحديث أنه عالم تقني بامتياز.. التقنية تؤثر في حياتنا اليومية في الوقت الذي نحاول فيه أن نستفيد منها في كل مجالات حياتنا. الحاجة إلى التقنية تعيد باستمرار الحاجة إلى تجديد العلاقة اليومية معها، ومن هنا تنتج التنقية عالمها التقني المثالي كوننا نحاول أن نجعل من عالمنا هو "العالم الأفضل"؛ وبذلك تخلق التقنية ما يمكن أن نسميه بـ"ميتافيزيقيا التصور التقني"، من خلال "إرادة القوة" كما يقول هيدجر، أو البحث عن "الإنسان الأمثل" أو "الأعلى" كما هي الفكرة النيتشوية المعروفة. ومن يحاول السيطرة على التقنية، فإنه في كل الأحوال سوف يستطيع السيطرة على العالم سواء كان عالما حقيقياً محكوماً بالأبعاد الفيزيائية للوجود أو حتى العوالم الافتراضية التي أعتقد أنها التحول الثقافي والاجتماعي القادم على مدى السنوات العشر القادمة، أو ربما أقل، بحيث لا يمكن إلا أن تشكل العوالم الافتراضية عالمنا الحقيقي، وتعيد بلورته حسب المعطيات الافتراضية.

إن التقنية هي الحدث الثقافي الأبرز، ولذلك فإن التغيّر الثقافي أو التحولات الاجتماعية هي نتيجة العديد من التحولات التقنية وتسارع وجودها وطرحها على أرض الواقع، ومع بروز الكثير من الأساليب الاتصالية الحديثة فإن العالم سوف يصبح أكثر تسارعاً وتقارباً. هذا ليس نوعاً من التنبؤ، وإنما محاولة لاستقراء الواقع الحالي. ما كان حداثياً وجديداً وثورياً في تقنيته يصبح بعد فترة مجرد فكرة تقليدية مع ما هو أكثر حداثة في عملية متسارعة النمو نحو ما أسميناه (ميتافيزيقا التصور التقني). هذا التسارع والتقارب يجعل من الرؤى التقليدية التي كنا نحملها في تصوراتنا عن العالم المحيط بنا سوف تكون مختلفة ومتخلفة بالكلية، حتى على مستوى التصورات الوجودية للوجود نفسه.

إن قراءة الحدث التقني كحدث ثقافي تسمح لنا بتتبع الكثير من التحولات الاجتماعية والثقافية على المدى القريب، الأمر الذي يمكن لنا معه أن نتعامل مع التحديات القادمة برؤية فاعلة تجعلنا لا نعيد تكرار أخطائنا مع كل قادم جديدة يخترق حجبنا الاجتماعية والثقافية.