ما يزال وصف المفاجأة قرينا لما حدث ويحدث من تحولاتٍ في عالمنا العربي لها وقعُ الزلزال والصدمة. المشهد الراسخ في ثباته وملازمته لوضعٍ سكوني كهفيّ، بات سائلا عصيّا على التنبؤ بكيفيّة خاصة تنظم ـ هذا المشهد ـ في مسارٍ محدّد تقطع بتشكّله وترسم صورة نهائية لما ستغدو عليه الخارطة العربية. كأنما لحظة الإعصار التي ضربت في نهاية ديسمبر من العام المنصرم، واقتلعت بعض أشجار الغابة المكينة؛ لم يعد بالإمكان تحجيمها ومواجهة انتشارها العاتي.
هذا التحوّل الصاعق يفتح بابا واسعا لمحاولات الفهم التي تتوقف عند البعض بالأثر والعدوى التي صنعتها وسائل ووسائط الاتصال الحديثة والمعدودة عند المهتمين والمراقبين محض فرجة افتراضية لـ "الدردشة" والبوح الشخصي الصرف، ولا تعدو أن تكون مجالا للانسحاب من الشأن العام كفاعليّة تأثيريّة.. غير أن هذا التوصيف أو التصوّر على صحته والمدعّم بالإحصاءات والدراسات البحثية والرسائل الجامعيّة، يحمل معه مفهوم التحوّل الذي طاول التركيبة النفسية والعقلية لمستخدم تلك الوسائل والوسائط، حيث برزت الذات المفردة الصلبة وقدرتها على التعبير دون مرشّحات أو مصدّات، في فضاء من الحريّة تعزّزه الخبرة العابرة التي تمضي نحو أبعد الضفاف؛ يحرّضها كمٌّ هائل من التواصل والتفاعل بما يرسّخ ليس معنى الحرية وحده ولكن رفع درجة الاهتمام بوجود ـ تلك الذات ـ في مجرى الحدث العام؛ سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.. وعلى نحوٍ يعيد ترتيب مكان الذات. فمن الاغتراب والانسحاب واللامبالاة إلى سويّة الاهتمام والانغراس في الجسد الاجتماعي، وبأداء ربما لم يتوقعه منشئو هذا العالم اللافتراضي الجديد، وهذا يعيدنا إلى مسلمّة إنّ من يصنع الأداة لا يمكنه التحكّم في نتائجها.
ثمّة ظروف أوّليّة جعلت شبكات التواصل الاجتماعي ناضجة بما فيه الكفاية لحمل سيرورة التحوّل وفتحِها إلى الأقصى واللامتوقع. يحدّثنا عالم النفس مارتن سيليغمان عن العجز أو اليأس المكتسب المولِّد لحالة متراخية من الاستسلام والسلبية وعدم إبداء الحراك قبالة الفشل المستمر حتى يتحوّل الفرد إلى كائن متبلّد "متصالح" مع الحضيض الذي بلغه؛ فلا يبدي محاولة أو تصدر عنه نأمة تدلّ لتغيير الوضع. وهنا يُحدِث الخداع لمن بيده المسؤولية والسلطة، يظن أن ما يشاهده أمامه هو الحاصل النهائي، ويغيب عنه الوجه الآخر لتراكم اليأس والإحباط. ثمة نقطة فاصلة يصل فيها ـ هذا اليأس والإحباط ـ إلى محطّة التشبع ويليها الانفجار، هي "النقطة الحرجة" التي يحدث فيها الانقلاب والتغيير والتحوّل النوعي الصاخب، عندما يكون الكائن الحي ـ بحسب أحد الباحثين ـ " في وضعية مصيريّة لا تقبل خيارات أخرى".