قبل ثماني سنوات، في 8 أبريل عام 2003م، دخلت قوات الاحتلال الأمريكي عاصمة العباسيين، بغداد تحت ذريعة التخلص من أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها نظام الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين. وحين تأكد عدم وجود أي نوع من أسلحة الدمار في الترسانة العسكرية العراقية، انتقل الهدف المعلن من الاحتلال إلى حماية شعب العراق من بطش حاكمه. الآن بعد ثماني سنوات من الاحتلال الأمريكي، تشن قوات التحالف الغربية، ومرة أخرى بقيادة أمريكية حربا تأديبية بحق نظام العقيد القذافي في ليبيا. وتعيد مشاهد صواريخ كروز وتوماهوك وطائرات الشبح وقاذفات القنابل، التي ترمي بحممها فوق المدن الليبية إلى الذاكرة صورة القصف الهمجي على المدن العراقية عام 2003.
ليس من هدف هذا الحديث الدفاع عن جرائم العقيد بحق شعبه. وليس الهدف الدفاع عن أعمال البطش واستخدام جبروت القمة بحق الشعب الأعزل. إلا أن ذلك ليس مبررا على الإطلاق للاتكاء على القوى الخارجية، لدعم التحرك الوطني. فأخلاقيا وقوميا ووطنيا، ينبغي أن يكون العرب قادرين على معالجة مشاكلهم الداخلية، دون استقواء بالخارج. فمثل هذا الاستقواء يجرح صلة الرحم، ويكشف عجز الأمة عن التصدي للمخاطر التي تحدق بها. وهو من جهة أخرى، يتيح للقوى الخارجية استثمار اختراقاتها للهيمنة على مقدرات الأمة، ويضعف خيارات العرب في الحرية والاستقلال وتقرير المصير.
إن لنا مع قوى التحالف التي تقصف بحممها المناطق الليبية، تاريخا طويلا من الصراع. كان لليبيا ذاتها قصة صراع مرير مع الاستعمار الإيطالي، ولا تزال صرخة شيخ الثوار، الشهيد عمر المختار، "نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت" عنوانا لإباء الليبيين وكبريائهم، وتصديهم الملحمي لقوات موسيليني. ولن يصدق كائنا من كان أن هؤلاء الإيطاليين قد تحولوا في غمضة عين إلى ملائكة رحمة، جاءوا لينقذوا مجانيا أهلنا في ليبيا، من طغيان جلادهم. وبالمثل، يصدق هذا القول على الفرنسيين، الذين نالوا منا أكثر من مليون ونصف المليون شهيد على ثرى أرض الأوراس الطاهرة، وفي سوريا ولبنان وتونس. أما الولايات المتحدة الأمريكية، فإن جريمة احتلالها للعراق، لا تزال ماثلة للعيان، ودماء العراقيين لم تجف بعد.
وإذا كان في التذكير عبرة لمن يعتبر، فإن هذه القوى تتحرك وفقا لمصالحها، وليس وفقا لمصالحنا. ولا يوجد في سجلها ما يشي بأن جيوشها وترسانتها العسكرية، قد أسست من أجل رعاية حقوق الإنسان، وتأمين كرامته. بل المنطقي والبديهي أنها تتحرك وفقا لما تراه متسقا مع استراتيجياتها، وأن هذه الاستراتيجيات حين تتعارض مع حقوقنا، فإن هذه القوى لا تتردد أبدا عن ضرب هذه الحقوق عرض الحائط.
تجربة الاحتلال الأمريكي لما بين النهرين، ينبغي أن تكون حاضرة دائما في ذاكرتنا. فقد تواطأ الأمريكيون على تاريخ العراق وعلى هويته، ودمروا دولته الوطنية، وقضوا على كيانية هذه الدولة بشرعنة دستور يغلب الهويات الجزئية على الهوية الجامعة. بل إنهم تعاونوا مع قوة إقليمية، كانت حتى وقت قريب في صراع عتي معهم، وسلموها السلطة في العراق على طبق من ذهب. وكانت النتيجة إضعاف العراق، وخروجه لفترة طويلة عن المنظومة الإقليمية العربية، وتفتيته إلى محاصصات بين الإثنيات والطوائف.
الأوضاع في ليبيا، تنذر هي الأخرى بمخاطر على الأمن القومي العربي، كما تهدد بتفتيت وحدة هذا البلد العربي. فالكيان الليبي المعاصر، لا يزال هشا. فتأسيسه هو ناتج وحدة بين ولايات ثلاث هي طرابلس وبرقة وفزان. وقد ارتبط وجود هذا الكيان بتنازل إيطاليا عام 1947 عن ممتلكاتها الاستعمارية، وصدور قرار عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1949، باستقلال ليبيا، وقيام المملكة الليبية المتحدة. لكن استقلال ليبيا رسميا لم يتحقق إلا في عام 1951. في الفاتح من سبتمبر قاد العقيد معمر القذافي انقلابا عسكريا أطاح بالملك محمد السنوسي، وأعلن الجمهورية. ومنذ ذلك الحين، تربع العقيد على الحكم، وقاد البلاد بقبضة حديدية حتى انطلاق الثورة الليبية مؤخرا. بمعنى آخر، لم يكن حضور الكيان الليبي الحديث، ناتج فعل التاريخ، ولم تسهم الجغرافيا في ترسيخه. لقد برزت هذه الكيانية بفعل ولادة قيصرية، تعسرت أكثر من خمس سنوات، وكانت الدول الكبرى، والجمعية العامة للأمم المتحدة هي قابلتها.
نحن نتكلم إذاً، عن هوية وطنية غير متماسكة، وعن استمرارية للهويات الجزئية، التي سادت قبل الاستقلال. وقد أسهم تباعد للمسافات بين المدن في ترسيخها. فعلى سبيل المثال، تبعد بنغازي، مركز الثوار عن طرابلس بمئات الكيلومترات، في معظمها أراض صحراوية مستوية ومكشوفة، بحيث يستحيل على جيش غير مجهز بأسلحة حديثة، عبورها. يضاف إلى ذلك، خلل كبير في الكثافة السكانية بين شرق ليبيا وغربها، لصالح الجزء الغربي من البلاد.
لقد بدأت المعارضة الليبية في التشكل منذ بداية السبعينيات. وبرز من بينها جبهة الإنقاذ الوطني. ولأن هذه المعارضة عملت في ظروف غاية في الصعوبة، فقد كان حضورها في الغالب خارج ليبيا وليس في البيئة المفترض أن تعمل بها. وكانت نتيجة ذلك، أن أقامت صلات بالقوى الخارجية، مما أدى إلى تحقيق اختراقات كبيرة من تلك القوى في داخل بنيتها والتأثير على توجهاتها. وقد أقيمت في الثمانينات من القرن المنصرم معسكرات تدريب لبعض عناصر المعارضة على الأراضي الأمريكية.
إن هذه الاختراقات هي التي تفسر لنا كيف تمكنت عناصر كوماندوز بريطانية من التسلل شرقا إلى الأراضي الليبية، تحت ذريعة إجراء مفاوضات مع المجلس الوطني الانتقالي، وقد أعلن عن إلقاء الثوار القبض على بعض عناصر هذه المجموعة. كما تفسر لنا حماس أعضاء المجلس للقوى الخارجية للتدخل العسكري، تحت ذريعة أنهم لا قبل لهم بمواجهة جيوش العقيد.
المستقبل الليبي يبدو قاتما. وليس هناك ما يؤكد أن عدوان قوات الأطلسي على ليبيا لن يؤدي إلى ذات النتائج الكارثية التي حلت بالعراق بعد الاحتلال الأمريكي. إن هذا الواقع يجعلنا نقلق كثيرا على مستقبل الوحدة الليبية، ويدفع بنا إلى المطالبة بدور أكبر للبلدان العربية، في حل الصراعات والنزاعات الداخلية، حماية لوحدة هذه البلدان، وصيانة للأمن القومي العربي.