الجياد الأصيلة لا تلهو خارج التاريخ، ولا يمكن استدراجها للمشاركة في مسابقات عروض الأزياء الثورية؛ لقد تعودت أن يكون لها قيمة، ولوقع أحداثها رنين يُدهش العالم، ويجعله يقف على أصابع قدميه ويصغي، وحتى لو كان عدد المصفقين/المتربصين كبيراً وينتظر لحظة الشماتة الكبرى؛ فالسعوديون ليسوا خونة لرموزهم، ولم يتعودوا ذلك. ربما لا يعرفهم العالم جيداً؛ لكن الكلمة هنا ما زالت تربط الرجل من لسانه، وتجعله وفياً لآخر لحظة إن عاهد أو وعد، أو التزم لك بقضاء حاجة، وحتى في المجتمع القبلي يمكنك أن تتأكد من ذلك حينما تشاهد الرجل البسيط وهو يضع يده اليمنى على لحيته قائلاً بالنص: "أبشر في هذه اللحية"، عندها ينتهي النقاش ويبقى وفياً معك لآخر قطرة دم، ولن يُغير ما لم تتغير أنت، هذا ما لا يعرفه العالم عن السعوديين، وبالتأكيد لا تعرفه فارس وإن طالت لحاها، وهو جزء أصيل في ثقافتنا ووعينا العام؛ إذ ثمة تفصيلات مدهشة في المجتمع السعودي لا يعرفها إلا من عاش بجوار جذوع السدر في الجنوب، والنخل في الحجاز ونجد، أبرزها وأجملها والتي لا تظهر إلا في المحن: أن حرص السعودي على أهل بيته وقريته وقبيلته ومدينته؛ يماثل تماماً حرصه على الوطن بالكامل، وكذلك شعوره الفردي والجماعي أن كل شبر في هذه الأرض يخصه تماماً، وأن في كل جهاته الأربع أهلا وخلانا وأصحابا، من واجبه أن يدافع عنهم كما يدافع عن نفسه وعن ممتلكاته الحميمة الخاصة.. السعودي يختلف كثيراً ويغضب أكثر حينما يجد خطأ، أو حينما يشعر أنه لم يؤخذ على محمل الجد؛ لكنه كائن متعقل جداً إن تعلق الأمر بمصير وطن يراه يومياً يستوي على سوقه كالحلم الذي لا يصدق.
من حسنات القدر أننا نبتنا على هذه الأرض الطيبة، وأن مكة المكرمة والمدينة المنورة وقبر سيد الخلق عليه الصلاة والسلام؛ أيقوناتنا الثلاث التي نفاخر العالم بأننا ولدنا حولها، ونعيش قريباً منها باستمرار، وبالتالي لا نشعر بالغيرة من الأحداث حولنا، حتى لو ثارت شعوب وتغيرت أنظمة.. نعلم تماماً أن النزول إلى الشارع وإحداث الفوضى والظهور في خبر عاجل على الشاشات؛ من الأمور السهلة في أي مكان في العالم، لكن الأصعب هو ما سيأتي بعد ذلك، والأهم في كل سيناريو ـ تجييشي ـ مماثل أننا نعرف جيداً ما يتماشى مع أحلامنا ومستقبل أبنائنا الآتي، وهذا شعب يُحسن الاختيار والانضواء. لقد كان السعوديون يسألون أنفسهم ليلة 11مارس: ماذا يناسبنا من كل هذه المسرحية؟ لم يكن الأمر يتعلق بنزوة أو تجاوب مع ثورة هنا وأخرى هناك؛ الأمر هنا مختلف وعقلاني تماماً، وهو يتعلق بمستقبل بلد وحياة شعب، ومقدسات أمة، ولذلك كنا نعلم منذ اللحظة الأولى أن الخيارات المفتوحة لا تناسبنا؛ بقدر ما تناسب الذين جاؤوا في الأصل على ظهر دبابة أجنبية، أو أولئك الذين تعودوا أن يخسروا أراضيهم بالمجان، ثم يوهمون شعوبهم أنهم في طريقهم لاستردادها؛ لكن الشعب لا يسمع إلا أغنية تعد بالاستعادة، وخطابات صمود وتصد كاذبة! الدعوات الصبيانية جعلتنا نعيد اكتشاف قيمتنا وقيمنا الحقيقية، أو بالأحرى نطمئن على جذور راسخة لم نكن نفكر فيها في الأوقات الطبيعية؛ كانت الرسائل النصية التي تبادلها الناس قبل وبعد 11 مارس تقول لك إن هذا شعب لا يمكن أن يخدعه تاجر شنطة، أو أن يسير خلف حنجرة ديك فقد الذاكرة، هنا انصهار غير عادي بين كل الناس عندما يتعلق الأمر بالخطوط الحمراء التي يعرفها الجميع، أحاديث الناس منذ اللحظة الأولى تبين لك أن السعوديين (أركد) مما يمكن تصوره، وأن لديهم وعيا سياسيا واستشرافا للمستقبل، وهم يستطيعون أن يقولوا لك أين تتجه الرياح القادمة، وسيتمنون لك بالطبع وقتاً سعيداً في رخائك وفي ثوراتك إن نويتها، هذه شؤونك الداخلية، ولك مطلق الحرية أن تتعامل معها كما تشاء، أن تثور أو تسترخي هذا شأنك، لكن ليس على حسابهم، أو محاولة استنساخ تجاربك المريرة عليهم. لنا أخطاؤنا بالتأكيد، ونحتاج للإصلاح باستمرار وهذا شيء طبيعي، لكن هذه الأرض لا تصلح لاستثمار تجار الشنطة.