لو عاد كل منا بذاكرته للخلف أو إلى التاريخ القريب والبعيد منذ اكتمال توحيد المملكة حتى الآن، أو حتى منذ وفاة الملك عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ لوجد أنه باستثناء ذلك التحدي الداخلي الذي مرت به المملكة في أواخر عهد الملك سعود، يمكن القول إن أغلب المشاكل التي واجهت المملكة ابتداء بمشكلة البريمي ومتعلقاتها ومروراً بأزمة اليمن بعد سقوط النظام الملكي، ثم الحرب العراقية الإيرانية، وانتهاء بأزمة الخليج الكبرى حين غزا صدام الكويت واحتلها ثم الحرب مع الحوثيين، كل هذه المشاكل في الواقع هي قطع من اللهب تختلف في شدتها بالتأكيد ولكنها تتفق في كونها لهبا جاءنا من جهنم عبر تلك النوافذ في الخليج، أما اليمن فهي ليست مجرد نافذة يأتينا اللهب عبرها، بل باب كبير بمصراعين كبيرين واسعين مفتوحين على الدوام على جهنم أخرى شديدة الحرارة والاشتعال.
لو سُئِلتُ وثورة تونس في أوجها أو حتى في أواخرها وقبس الثورة يتأهب للانتقال لهشيم آخر في شارع عربي آخر عن أبعد الشوارع على وجه الأرض عن هذا القبس لقلت بلا تردد إنه الشارع العماني، ولذلك كان بالنسبة لي وبالنسبة لغيري فيما أظن خبر تلك المظاهرات في عمان مفاجأة كبرى تفتح على المملكة نافذة جديدة.. ولو كنت قد سئلت عما إذا كانت المشاكل التي تهدد الإمارات العربية المتحدة خارجية أم داخلية لقلت بلا تردد إنها داخلية بنسبة 99% وخارجية بنسبة 1% ومع ذلك ظلت أوضاعها الداخلية عال العال، والخطر الذي جاءها كان من جهنم المجاورة عندما احتلت جزرها في الخليج، أبو موسى وطنب الكبرى والصغرى، وأصبحت الجزر خناجر مسمومة في خاصرتها لا تستطيع إزاحتها ولا تستطيع الحركة خوفاً من طعناتها، وكان ذلك بالنسبة لنا في المملكة نافذة أخرى تطل عبرها علينا ألسنة الجحيم.. ولو انتقلنا من الإمارات إلى البحرين والكويت فسنجدهما أصلاً نافذتين مشرعتين على الدوام على جهنم تلقيان على كاهل المملكة عبئاً ضخماً وقلقاً كبيراً، أولاً باعتبارها الراعي الأكبر لمجلس التعاون الخليجي الذي قام أصلاً بغرض مواجهة الخطر الإيراني، وثانياً انطلاقاً من مسؤولية الأخوّة وواجب حماية الشقيق الذي يتعرض للخطر، وثالثاً لأن الخطر أصلاً لا يقف عند حد مصالح هذا الشقيق ووجوده، بل يمتد إلى مصالح وأبناء المملكة ويهدد حياتهم ووجودهم.
هناك سؤال لا بد أن نكون صرحاء مع أنفسنا ونطرحه حتى تكون الصورة أكثر وضوحاً، وتتضح حقيقة المشاكل التي تحيط بنا وأبعادها.. فالمملكة الأردنية الهاشمية هي نافذتنا الشمالية الواسعة، وهذه النافذة يفترض أنها مفتوحة على جهنم الكبرى والأخطر، ومع أننا لا نخسر على أجهزة إطفاء النيران التي نخصصها للهب نافذتنا الشمالية إلا النزر اليسير من تلك التي نخصصها للهب نيران نوافذنا الشرقية والجنوبية فإننا مع هذا لا نواجه من الشمال إلا القليل القليل من اللهب الذي لا يمكن مقارنته نهائياً بما نواجهه من نوافذنا الأخرى، فلماذا يا ترى هذا الوضع اللافت..؟؟ لقد كان المفروض أن نواجه المشاكل الكبرى عبر تلك النافذة الشمالية المفتوحة على العدو الأكبر أو على جهنم الكبرى لكن الواقع أن الأمر ليس كذلك، والإجابة على هذا التساؤل اللافت أظنها موجودة بوضوح في الحرب العراقية الإيرانية، وفي حربي الخليج الأولى والثانية.
المملكة العربية السعودية وطن كبير لها نوافذ وأبواب عديدة مفتوحة على أودية من السعير، وقد منّ الله عليها بثروة ضخمة تمكنها عن طريق استثمار بعضها من إغلاق تلك النوافذ والأبواب. وإضافة لذلك فلديها قيادة خبيرة ومدركة.. ، ولا بد أنها ستستمر في مسيرتها الإصلاحية فهي القدوة والأخ الكبير، في منظومة دول الجزيرة والخليج، وهي القبطان العاقل الذي سيقود المركبة التي تتعرض الآن للتحديات ليبحر بها نحو شاطئ الأمان.
المملكة واليمن ودول الخليج قدرها أن تكون كيانا واحدا، تواجه التحديات بإرادة واحدة ونهج واحد، وأعتقد أنه من الصعب جداً أن تستطيع تلك الدول مواجهة التحديات الضخمة الحالية بوضعها ووسائلها وأساليبها الحالية، إذ لا بد من إعادة الهيكلة كما يقول الإداريون، وإعادة الهيكلة هذه تتطلب تكلفة مالية كبيرة، وأظن أن المملكة ودول الخليج الغنية الأخرى قادرة على تحمل تكلفة مشروع سياسي يحرك الواقع الجامد، ويستجيب للمتغيرات، وفي الوقت نفسه يبقي على صيغة مقبولة لكل بلد في إطار حد معقول من الاستقلالية في الأمور الهامة.
لا بد في رأيي من تحرك فاعل لسد تلك النوافذ المفتوحة الآن على نار جهنم وإقامة حائط سياسي صلب منيع يحمي جزيرتنا العربية من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، نوافذه من الفولاذ، نفتحها إذا أردنا ونغلقها إذا شئنا نضمن به مستقبلاً مشرقاً لأبنائنا وأحفادنا ويوفر لنا حياة سعيدة نكون فيها مرتاحي النفس والضمير.