أكاد لا أصدق نفسي أحيانا وأنا أستعرض كمية الكتب الجيدة التي قرأتها منذ نعومة أظفاري، منها ما ضاع؛ فأنا عليه حزين، وبقي في الذاكرة منطبعا؛ فهي مكتبتي..

مما يحضرني من ذاكرة الكتب التي أحزن عليها في مكتبتي (أوضاع سجناء العالم الذري) لاوبنهايمر وكتاب (النسبية) لعبد الرحيم بدر، وكتاب أو رواية (الرجل الضاحك) لفيكتور هوجو. فمن عثر عليها أرجو هدايتي إليها.

وكذلك الحال في الكم المعرفي المتراكم؛ فمن واظب بنى نفسه معرفيا بدون توقف، فوصل عتبات من المعرفة رائعة، وعوالم بهيجة من الفكر، مثل من اعتلى جبلا ورأى المناظر أمامه من علو.

وقانون التراكم المعرفي والتغير النوعي هما تلك الحالة الذهنية المحتشدة من حوالي مئة ألف وحدة معرفية كما يطلق عليها علماء النفس كلمة (Chunk)، ويمثلونها في لاعب الشطرنج وهو يراقب اللوحة في أحد مراحل اللعبة فهو لا يقف عند معطياتها الوقتية بل يقفز في الذهن إلى كل اللعبة وأين وصلت؟ ولعل هذا يحصل معنا نحن الجراحين فحين ننظر في بطن المريض المفتوح نعرف وفي لحظة واحدة هل العملية في أولها من آخرها؟ وهل تنتهي أم تبدأ؟ وهل الجراح في أعظم لحظاته صعوبة؟ أم أنه يقفل العملية وينهي الشغل؟

وتحت هذا المفهوم تحضرني فكرة (الكتلة الحرجة Critical Mass) وهي فكرة استفدت فيها من حقل الفيزياء النووية ولكن وجدت لها تطبيقات في علوم شتى تتراوح بين النفس والكيمياء وعلم الاجتماع بل والحضارة وقدر الجنس البشري والثورات والبراكين حين تتفجر حمما..

الدماغ الإنساني يتولد فيه الوعي حينما يقفز عدد الخلايا العصبية إلى رقم معين، ويقول أطباء التشريح إن الوعي انبثق من الدماغ من رحم التعقيد حين تجاوز الدماغ وزن ألف غرام. وينطبق هذا القانون الحرج على الماء حين يصل نقطة الغليان فتتغير نوعيته فيتبخر إلى السماء، والنفس تتأثر في مواقف حتى تصل الحافة الحرجة فتتدفق الدموع تأثرا.

ويتكرر هذا في الانفجار الاجتماعي بالثورات فهي تعتمد أيضا الدرجة الحرجة ولكنها مغيبة في علم الغيب لا يجليها لوقتها إلا هو، كما رأينا في شتاء 2011م مع انفجار الأوضاع في تونس ومصر وختمت بلوحة سيريالية من الدم في ليبيا..

وعندما بدأ الأميركيون يطورون السلاح النووي اتجهوا للمجهول.

وكانت إحدى المشاكل المستعصية هي قانون الكتلة الحرجة فكم يجب أن يكون وزن الكتلة من مادة اليورانيوم حتى يحدث الانشطار النووي في واحد من مليون من الثانية.

وعمل على هذه المعضلة خيرة العقول الرياضية يومها، ووصلوا إلى رقم يحوم بين ستة كيلو غرامات و60 كغ ومازال حتى اليوم سرا حربيا.

كذلك يمكن فهم مثلث النهوض الاجتماعي (الأفكار ـ الأشخاص ـ المؤسسات) الذي يقف خلف التغيير الاجتماعي، أنه لا بد من تشكل نسبة اجتماعية معينة من الناس لا ينقصون عنها، ولا فائدة من زيادتها.

فكرة الكتلة الحرجة كما نرى عامة كونية سواء في المادة الصلبة، أو السوائل، في البيولوجيا أو النفس.

يسري هذا القانون في الانفجار الذري، أو غليان الماء، أو حتى التغيير الاجتماعي، فهو قانون انطولوجي وجودي.

ويصدق هذا القانون على أدنى العتبات على عمل جداتنا في حفظ الجبن بتمليح الماء إلى (الدرجة الحرجة) فنعرف أنه مناسب لحفظ الجبن بوضع البيضة فتطفو على السطح.

إن قوانين المواد والسوائل تتشابه بدرجة كبيرة، فتفجير القنبلة الذرية يحتاج إلى (الكتلة الحرجة) بحيث تضغط كتلتان من مستوى (ما تحت الحرج) كي تصبحا بعد الدمج فوق الكتلة الحرجة؛ فيحصل الانفجار المهول. ويسري هذا القانون على النفس فلا بد من وصول النفس إلى درجة (التأثر الحرج) كي تنفجر النفس بالبكاء والعيون بالدموع، كما يحدثنا الرب عن هذه العتبة: (يخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا).

ويصل هذا القانون إلى المجتمعات فكما أن درجة غليان الماء لا تحدث إلا في ( الدرجة الحرجة ) وهي 100 سنتيغراد، كذلك الحال في التغيرات الاجتماعية الكبرى التي تتخمر فيها الأحداث وتحبل فيها الليالي، فلا يحدث الغليان ما لم يصل إلى الدرجة الحرجة.

وهكذا فـ (الماء) حتى يغلي لا بد له من (الدرجة الحرجة)، و(القنبلة الذرية) تحتاج لانفجارها إلى (الكتلة الحرجة)، و( الجبنة ) حتى تُحفظ تحتاج لــ (الوسط الملحي الحرج)، والتغيير الاجتماعي لا بد له من كتلة إنسانية حرجة سواء كان (نوعياً) أو (كمياً) حتى يتم الإصلاح المنشود.

سنة الله في خلقه وخسر هنالك المبطلون..