لا شك أن الشعراء يستخدمون المجاز كثيراً، كما أن الشعر يقوم في كثيرٍ من صوره على العبارات اللافتة، والتشبيهات التي تضم أحياناً ما لا يمكن أن يقبل في الكلام العادي، وإذا كان النحاة قالوا في أبيات الشعر: "يجوز في الشعر ما لا يجوز في النثر"، فإن الشعر أيضاً يمكن أن يتحمل الكثير من المجاز الذي لا يتحمله النثر. والشعر بطبيعته يقوم على المبالغات في الصور، حين تشبه شجاعاً في جيش على أنه نابليون فإن كل من قرأ القصيدة يعلم أن شجاعة ذلك الجندي لا تساوي ربع شجاعة نابليون لكنهم سيقبلون التشبيه ويصفقون للشاعر لأن هذا هو قدَر الشعر، وبخاصةٍ حين يكون مجال الشعر المدح أو الغزل، حينها تذهب القريحة بعيداً. ولقد لقي الشعراء في عصور العروبة والإسلام حتفهم بسبب كلمات تفوهوا بها في أبياتهم، فدفعوا حياتهم ثمناً لكلمة، لم يتوقعوا رجع صداها يوم خرجت من أفواههم!

كل ما سبق معروف، ومفهوم، لكن غير المفهوم أن تنفق الجهات الرسمية نحوا من ثلاثين شهراً في تحقيقات تناولتها أكثر من جهة، مع الشاعر عبد الحكيم العوفي ليثبت أول من أمس فقط، أنه لم يشبه الممثلة التركية لميس بكعبة، وهو تشبيه تمجه النفوس المؤمنة، دون شك.

وبعيداً عن كون خصوم العوفي لم يرأفوا به، ولم يظنوا به الظنّ الحسن، بل مباشرة أقاموا ضده دعوى واستمرت إجراءات الدعوى حوالي ثلاثين شهراً قبل أن تتم تبرئته، احتاجت محكمة المدينة المنورة إلى ثلاثين شهراً حتى تكتشف أن الدعوى يجب أن تردّ، وأنه لم يثبت عليه قول أبيات الشعر المستنكرة!

خلال تلك المدة الطويلة بالتأكيد أن المحكمة استهلكت عشرات الأوراق، وأن الموظفين يقضون يومياً ساعاتٍ طوال من أجل دراسة ونظر دعوى ردّت. على المحاكم أن تعلم أن الدعاوى التي تقام ضد المعلمين ليست بريئة دائماً، وسط "المعلمين" وسط مليء بالنقاشات والمشاحنات، والتحزبات والاستتابات، ياما سمعنا عن معلمين يُضطهدون وتحاك ضدهم الأحابيل لأنهم يسمعون الموسيقى متبعين رأي الإمام ابن حزم، أو لأن لهم زوايا في الصحف، فيتربص المعلم المخالف له حتى يجد عليه ثغرة. حين تعلم المحاكم هذه البدهية تختصر على نفسها الوقت من قضايا صغيرة تقوم على قصص صغيرة، كان على القاضي أن يعلن عدم الاختصاص بالقضية، أما الشاعر فإنه لم يقصد ما في بالهم من ظنّ، حتى وإن ظنوا أنه قصد فإن الاستغفار يقدمه لله ولا يقدمه للناس! اللجان التابعة لوزارة التعليم أيضاً استنفدت أوقاتاً في متابعة هذه القضية، بشكل يصعب على العاقل تصوره، خصوصاً إذا علمنا أن الدوائر الحكومية سواء في المحاكم أو التعليم تشتكي من قلة الكوادر وكثرة الأعمال، فلم نشغلها بلميس، وما يقال عنها، حتى لو كان خطأ؟!