يقول النقاد والأدباء إن النص المفتوح والعميق هو النص الذي يفتح المجال لقراءات متعددة ، فقد لا تتفق عليه قراءتان. وكذا العمق النقدي قد يفعل الفعل نفسه. والدليل هنا أن الكتاب الجديد للناقد السعودي الدكتور صالح زياد "مجازات الحداثة" الصادر عن نادي المدينة المنورة الأدبي بالتعاون مع (الدار العربية للعلوم ناشرون) جعل أحد النقاد العرب يسقط الرؤية الفنية النقدية التي خرج بها الكتاب على التحولات الثقافية والاجتماعية التي تشهدها المملكة. وفي حواره مع "الوطن" حول الكتاب وبعض القضايا الأخرى، يؤكد زياد أن "هناك نصوصاً كتبتها المرأة وكأن كاتبها رجل لم يبرأ من النظرة الذكورية المتخلفة تجاه المرأة". كذلك يكشف عن شكوى بعض جيل الثمانينات من "التهميش النقدي" على الرغم من أنهم يتصدرون منابر الإعلام. ولنترك القارئ مع الحوار.

دعنا نبدأ من الصدى العربي الجيد الذي أحدثه كتابك الجديد "مجازات الحداثة"، من خلال نشر بعض الصحف العربية قراءات وتحليلات حوله.. هل ترى أن نشر الكتاب السعودي خارج المملكة الطريقة المثلى لتعريف العالم بمنتجنا الثقافي؟

العلاقة بين الكِتَاب –أي كتاب- ومساحة تلقيه المحلية لا تبرأ من الذاتية، سواء في جهة التعاطف معه أم الضدية له. في المساحة الأبعد من الدائرة المحلية يقترب تلقي الكتاب من الحياد والموضوعية، بسبب تلاشي تلك الذاتية أو دعنا نسميها الصلة بموضوع الكتاب أو بمؤلفه. أتصور أن النشر صناعة راقية لا تقف عند حد وجود مطابع ومكتبات. لا بد من توافر مناخ فكري وثقافي قادر على الغربلة والتمييز. هذه الصناعة بصفتها المتقدمة والراقية موجودة خارج المملكة، ومعروف -طبعاً- أن بعض دور النشر الرصينة لا يمكن أن تبيع صدقيتها ورصانتها مهما بلغ الثمن، هكذا أصبح لها ثقل، وأصبح لما تنشره قيمة. طبعاً أنا لا أتكلم هنا عن كتابي تحديداً، وإنما عن مؤدى سؤالك عن النشر خارج المملكة. النتيجة بلا شك محسومة للخارج في التعريف بمنتجنا الثقافي والفكري، ولعلنا نستطيع -إن شاء الله- في المستقبل أن نباشر من داخل المملكة هذه المهمة.

هل ترى أن مجازات العائق الاجتماعي: "الظلام، الرياح، الجبل، السقف" التي تطرقت لها في كتابك، ما زالت سمة ظاهرة في إبداعنا المحلي؟ أم بدأ هذا الإبداع ينحو نحو الواقعية؟.

مجازات العائق الاجتماعي هي تمثيلات الكناية والاستعارة ونحوهما، لما يعوق الذات اجتماعياً من جهل أو فقر أو تعصب أو كبت... إلخ. وكل قصة تنطوي، بالضرورة، على بنية اجتماعية، وعلى صراع وتعارض بين حوافز وعوائق. لهذا رأيت أنه بقدر ما تنطوي القصة الحديثة على منظور الحداثة الذي يعني القص من موقع بعينه وبهواجس الاستنارة وتجدد الوعي وقلقه وطموحاته في الارتقاء والتقدم، يصبح العائق في مجازيته الاجتماعية عاملاً بنائياً في تكوينها يمارس الاعتراض والمناوأة والإعاقة الاجتماعية للحداثة التي تستحيل إليها هوية العامل الذاتي في تكوين القصة، أي فعل الرغبة وطموحها. واكتشفتُ ما ذكرته في سؤالك عن "الظلام، الرياح، الجبل... إلخ" من خلال نصوص مختارة من القصة السعودية تمثل على ما تكتنزه من مجازات الحداثة التي استطاعت بها أن تصنع سرداً في مطلق الرغبة الإنسانية إلى الذاتية والتحرر والتجدد والمعرفة والمعاني وفي قيدها المحلي. وهذا طبعاً مظهر واقعي نقدي في وجهة القصة، وما عرضته هو مجرد البناء الذي تتجدد وتتنوع وتتكاثر أمثلته فيما يُكتب من قصة باستمرار.

قال الناقد العراقي حسين السكاف في صحيفة "الأخبار" اللبنانية إن كتابك "مجازات الحداثة" يحاول تلمس "حداثة محلية" تخص الإنتاج الإبداعي السعودي.. هل هذه الرؤية دقيقة؟ وكيف تنظر إلى النتيجة التي خرج بها في آخر مقاله التحليلي للكتاب والتي لخصها بقوله: "تبقى الإشارة الأهم في الكتاب، اعتبار هذه الفورة في النتاج القصصي السعودي إشارةً حقيقية إلى أن هذا المجتمع يمر بمرحلة تحولات حضارية مهمة"؟.

ليس هناك أدب بلا محلية، المحلية هنا ليست في الاقتصار على المكان المحلي، أو تكريسه، المحلية هي القص من موقع بعينه وبذاتية شخصية وثقافية اجتماعية محددة. لكننا نخطئ إذا تصورنا أن المحلية قيد على الإبداع أو أنها سجن أمام انطلاقِهِ إلى مدى أرحب، كل محلية لها وجهها الكوني والإنساني، في العمق هناك مزيج البشرية ونشيجها وغناؤها الواحد المتنوع. أما ما يمر به المجتمع السعودي من تحولات حضارية أو أدبية، فأعتقد أن الكتاب لم يقصد استعراضها أو التاريخ لها، وقد استنتجها الأستاذ السكاف من مجمل الكتاب.

سبرت بشكل عميق مجازات "الوعي النسوي"، كيف تعاملتْ برأيك الكاتبة السعودية مع أدوات الكتابة الحداثية؟ وهل تؤيد من يرى أنها ما زالت تدور في فلك القضايا العاطفية والصراع مع الرجل، من خلال رؤية تقليدية؟

دخول المرأة فضاء الكتابة الأدبية يعني دخولها دائرة الوعي بذاتها وبالثقافة، لأنه لا معنى أدبياً لدلالة الكتابة من دون إدراك قيمة الفردية والذاتية التي تتصل بدلالة الاستنارة في تحرر الإنسان من وصاية غيره على عقله. والمرأة الكاتبة كما تشير إبداعاتها تخطت في كتابتها مشكلة العلاقة بالرجل إلى العلاقة بالثقافة، ولذلك كانت المجازات –كما شرحت في الكتاب- تتناسل في ترسانة تخييل وتأويل باتجاه التفكيك لثقافة الذكورة والفحولة، من خلال تمثيلها بما يحجُّها من العنف وتغييب العقل والاستسلام للخرافة والاتصاف بالعبث والغرائبية. وحين أتحدث هكذا فأنا أعني النصوص التي اخترتها من بين الكثير من النصوص، لأن هناك نصوصاً كتبتها المرأة وكأن كاتبها رجل لم يبرأ من النظرة الذكورية المتخلفة تجاه المرأة. أما مسألة التقليدية في قصص المرأة فليست في التكرار للثيمات أو القضايا وإنما في افتقاد القدرة على صياغة خطاب القصة بما يجعلها إضافة لا تكراراً.

بصفتك متابعا جيدا لما يطرح في الساحة الثقافية المحلية.. هل لمست أي انعكاس لصراع التيارات الفكرية، من خلال توظيف هذا الصراع أدبياً؟

نعم، الصراع هو مبدأ الخلق والإبداع الأدبي. بلا صراع ليس أمامنا إلا موعظة. لكن هناك فرق بين توظيف هذا الصراع وترميزه، وإعادة تمثيله، وبين تقديمه بشكله الخام والمباشر.

يلاحظ على أغلب النقاد السعوديين تركيزهم على أسماء معينة سواء في دراساتهم للحركة الشعرية أو السردية في المملكة (بالـتأكيد أنها متميزة إبداعيا) ، ولكنها مكررة في معظم الدراسات وخصوصا جيل الثمانينات الميلادية. لماذا؟

هناك فرق بين أن يقصد الناقد الترويج لأسماء معينة، وبين أن ينصرف إلى اقتناص ما يكشف عن رؤيته ويدلل على افتراضاته. الفترة من نهاية السبعينات الميلادية والثمانينات هي فترة تحول حقيقي في الأدب السعودي، وهي بمثابة تأسيس للمنظور الإبداعي الحديث على أكثر من مستوى. الأسماء الجديدة في التسعينات وما تلاها أسماء مهمة وبحاجة إلى الاكتشاف والقراءة، ولكن في سياق يختلف ويضيف إلى التجربة السابقة ولا يقف عند حد التكرار لها. ولا تنس أن من نسميهم جيل الثمانينات كانوا يشتكون في الثمانينات من انصراف النقاد عنهم إلى من قبلهم.