في البدء، أعتذر من القارئ الكريم عن إعادة الكتابة حول مواضيع سبق التطرق إليها مما يمكن أن يكون مكروراً، إذ أجدني مضطراً هذه المرة أيضاً إلى الحديث حول ذات الأحداث التي بدأت الكتابة فيها طيلة الأسابيع الأربعة الماضية، فمازال السؤال حول ما حصل، وما يحصل حتى هذه اللحظة في بعض بلدان العالم العربي من تغيّرات وتبدلات ثقافية وسياسية، (إذا اعتبرنا مفهوم السياسية هو الحراك الاجتماعي حسب تصورات السوسيولوجيين)، مطروحاً على مستويات عديدة في الساحة الثقافية العربية والعالمية على حد سواء، وهي تحولات تجعل من سؤال التغيير متداولاً في أكثر من مجال حتى على مستوى الأفراد أو المستوى الرمزي اللغوي أو الافتراضي. ما حصل فوق التصورات والقراءات السريعة لسقوط أنظمة كانت مهيمنة على الواقع الثقافي والاجتماعي في دول مركزية في العالم العربي، إذ يتعدى كونه حدثاً في بقعة جغرافية محددة إلى تأثيرات شبيهة بموجات البحر المتكسرة على شواطئ متقابلة من جهات دائرية متباعدة. الذي حصل أعطى أبعاداً مختلفة في قراءة الحدث مما يمكن أن يؤسس لخطابات جديدة تستوعب فكرة الحدث نفسه.
ما حدث يمكن قراءته في سياق التطورات الحديثة للمجتمعات الآنية، والتي تتفاعل مع محيطها الافتراضي الجديد على صفحات التواصل الاجتماعي في شبكة الإنترنت. هذه المجتمعات الحديثة التي تجاوز فيها الشباب كل الرؤى الفكرية السابقة من خلال "الأيديولوجيا التقنوية" الحديثة ـ إذا صح هذا التصنيف ـ لكن هذا لا يفسر كل الحدث بقدر ما يفسر جزءاً من أجزاء مختلفة تحتاج قراءات مكثفة لفهمه، والدليل أن الحدث لم يحصل في مناطق أخرى من العالم العربي، أو حدث بشكل أقل حدةً مما حصل في تونس ومصر، أو الأكثر حدة في ليبيا حالياً، مما يجعل كل خريطة جغرافية أو ديموغرافية بحاجة إلى قراءة خاصة؛ قراءة تأخذ بالمعطيات التي تأسست عليها الكثير من التكوينات الفكرية لهذه التركيبة الاجتماعية أو تلك.
هناك أكثر من اتجاه يقرأ المتغيرات التاريخية، أو بالأصح، يحاول تفسير حركة التاريخ، فمن الفلسفة الهيغلية في صراع الأفكار، إلى الرؤية الماركسية حول المفهوم المادي للتاريخ الذي يعتمد على تأثير البنى الاقتصادية وصراع الطبقات. في حين كانت فلسفة ماكس فيبر تدور حول تأثير "الفعل الاجتماعي" أو "النموذج المثال"؛ أي أن القيم الثقافية تسهم في تشكيل المجتمع، وفي توجيه أفعال أفراده متأثراً بالرؤية العقلانية التي اتسعت دائرتها في الجانب الغربي بعد انتصار فلسفة الحداثة والتنوير، أما جورج ميد فيرى أن "التفاعلية الرمزية" لها الأثر الكبير في تغيير مسيرة التاريخ، حيث إن اللغة والمعنى يمنحان الفرصة للوصول إلى مرحلة الوعي الذاتي، والكلمات التي نستعملها هي رموز تمثل معاني نقصدها توجه انتباهنا إلى تفصيلات التفاعلات الشخصية لتعيد تشكيل الواقع. وتأتي المدرسة الما بعد حداثية لتهدم التصورات الكلاسيكية في حركة التاريخ التي كانت ترى مساراً محدداً وسيرورة هادفة لاتجاهه، فالمدرسة الما بعد حداثية ترى أن ما يتحكم في عالم اليوم هي وسائل الإعلام، ووسائل الاتصال الحديثة. فالفضائيات ومواقع الإنترنت زاخرة بالأفكار المطروحة للتداول، والتي يمكن لها أن تعيد بلورة رؤانا تجاه أنفسنا، وتجاه العالم من حولنا. (أنتوني غدنز: علم الاجتماع) ص 68 ـ 79، ص 716 بتصرف.
في العالم العربي لم تتأسس نظريات مقنعة لفهم حركة التاريخ العربي بعد ابن خلدون، وكل ما ذكر ليس إلا دعوات ثقافية لبناء نظريات عربية خالصة تتأسس من خلال المعطيات التاريخية للفكر العربي. هذه الدعوات حتى وإن كانت تحاول النهوض بالفكر العربي، إلا أنها من رؤيتها الفكرية تتكئ على النظريات الغربية لدراسة واقعها الثقافي.
شخصيا أرى أن المجتمعات العربية مازالت تتخبط في امتلاك رؤيتها الخاصة لفهم ذاتها الثقافية وتحولاتها، فهي ليست إلا متأثرة بالمحيط العالمي من حولها، بل حتى الحركات القومية العربية أو التنويرية الليبرالية التي تعتبر أحد تجليات محاولات النهضة كانت تستلهم تلك التوجهات من المحيط العالمي من حولها، في الوقت الذي تبقى تيارات الإسلام الحزبية تعيث في ضوضائية، وغير متسقة مع المعطيات العالمية، فهي تعيش عصورا ضبابية ومازالت تفكر بطريقة تراثية لا تتناسب مع العصر.
ما حصل من ثورات شعبية تكاد أن تكون شيئاً جديداً لم يشهده العالم العربي من قبل، فكل الثورات التي سبقتها، أو كل الحركات الشعبية التي حاولت أن تحرك الساكن كان مصيرها إلى الفشل.. تونس ومصر يطرحان نموذجين مختلفين عن السياق العربي. البعض يعتبر هاتين الثورتين من أهم الثورات بعد الثورة الفرنسية والأميركية في العالم الغربي. طبعا من الصعب الاستعجال في الحكم هكذا، فمآلتها وما تفضي إليه من نتائج، هو ما يمكن أن نعول عليه في المستقبل. الآن سؤال التغيير هو السؤال المطروح لفهم ما جرى. شخصيا أرى لكل بلد محدداته التاريخية التي يمكن قراءة أحداثه أو تحولاته السوسيوثقافية عن غيره. لا أتبنى وجهة النظر التي تؤمن بالخصوصية فهي في نظري إيهام أيديولوجي لعزل المجتمع عن المحيط، بقدر ما أتبنى الرؤية التي تقرأ التاريخ وفق المعطيات التاريخية التي تكون من خلالها الحدث التاريخي أو السياسي أو الثقافي، والتي يمكن لها أن تضيء جوانب قد لا تتوفر في جوانب أخرى في أماكن أخرى.
الثقافة الحديثة هي ثقافة تقنية وهي التي يمكن لها أن تجيب عن سؤال التغيير، فمن النظرة الأولى نجد أن المؤثر على وعي الشعوب حالياً هو العامل الاتصالي وثورة الاتصالات والعوالم الافتراضية، خاصة مع الجيل الصاعد، مما يجعل نظريات ما بعد الحداثة هي الأقرب إلى الصحة. المشكلة أن نظريات ما بعد الحداثة بدأ البعض في نقدها لتأسيس خطاب (ما بعد الما بعد حداثي) لم يتبلور بشكل واضح حتى الآن. الخطاب التقنوي هو الخطاب الأكثر تفاعلية مع ما يطرح في الساحة العربية، فإذا كان هناك من تشكل ثقافي واضح وبشكل أكثر جلاء، فهو هذا الخطاب، بمعنى أن التفاعل الإنساني كان تفاعلاً افتراضياً نزل من على صفحات النت إلى الشوارع العامة. طبعاً لا يمكن أن يفسر هذا كل ما يحصل في العالم العربي، إذ إن تفاعل هذا الخطاب مع الواقع يعود أحيانا إلى تأثير الواقع على العوالم الافتراضية والعكس. تنهدم علاقات السبب والنتيجة في مثل هذه المسائل، فما كان نتيجة يمكن له أن يكون سبباً، وما كان سبباً، فلربما كان نتيجة لسبب أعلى. والعوالم الافتراضية هي في أصلها خلق عوالم موازية للعالم الواقعي المعاش والمرفوض، لكن يمكن أن تتسرب إليه كل مشكلات الواقع كما يمكن أن يعيد تشكيل الواقع إلى واقع أفضل.