تتجاور في النفس الإنسانية في علاقتها بالعالم الخارجي قضيتان مهمتان: الحاجة إلى الفهم والرغبة في التغيير. فما مدى حاجة الإنسان إلى الفهم؟ وكيف يتحقق من صحة فهمه؟ وأيهما أولى: فهم العالم أم تغييره؟

بينما يضيع وقتك في قراءة هذا المقال هناك من يتابع أحداث العالم عبر وسائل الإعلام وهناك من يعيشها وهناك من يتأملها وآخر يراها في كوابيس وآخر يراها في أحلام وردية وآخر يرفض متابعتها وآخر يفتش فيها عن علامات الساعة وآخر.. وآخر.. وكل واحد منهم تدفعه الحاجة إلى الفهم والرغبة الإنسانية الأصيلة في العثور على اتساق منطقي للأشياء والأحداث.

ويعمل الإنسان على توظيف الوسائط المعرفية المتوافرة لديه من أجل تلبية هذه الحاجة إلى الفهم. ولكن ما مدى وثوقية هذه الوسائط؟ وكيف يمكن الاعتماد على صحة ما نراه بأعيننا ونسمعه بآذاننا في ظلّ وسواسنا الجماعي بنظرية المؤامرة، وفي ظلّ تشبيه البعض لما يحدث بمسرح الدمى حيث نرى العرائس ولا نرى الحبال التي تشدها ومع ذلك نشكك في مدركاتنا الحسية ونقسم أن هذه الأصابع التي لا نراها موجودة. والأسوأ من ذلك أن هذه الوسائط المعرفية التي يمكن لها أن تساعدنا على فهم العالم تخضع لمنطق القوة وتصبح أداة في يد أولئك القادرين على تغيير العالم، ما يذكرنا بقول الشاعر: "وعادة السيف أن يستعبد القلما". فهل يمكن التحقق من صحة الفهم في حالة كتلك؟!

إن هذه الحالة من الشك في القدرة على فهم الوقائع والأحداث تدفع البعض للبحث عن اليقين في الوحي الإلهي باعتباره مصدرا متعاليا للمعرفة. ولا حاجة للتذكير بما حدث بعد الحادي عشر من سبتمبر فالعهد به قريب حين (اكتشف) البعض أن القرآن الكريم سبق ابن لادن بأربعة عشر قرنا من الزمان، وأن انهيار البرجين بما هو واقعة حسية قد تم التعرف عليها من خلال القرآن الكريم في يقينية ساذجة تخلّص الإنسان من الشك وتمنحه فهمًا متوهمًا. ولعلّ أحدهم يعمل الآن على الكشف عن إشارات إلهية للأحداث السياسية الجارية تمنح شعورًا بالاطمئنان وإن كان مزيفًا.

ويسير في نفس هذا الاتجاه من الناحية الفكرية وعكسه من الناحية الزمانية الربط بين ما يحدث الآن كوقائع جارية وبين ما سيحدث في المستقبل الغائب. فهذه الاضطرابات السياسية فتن كقطع الليل المظلم تبشر بيوم القيامة، وكثرة الفتن من علامات الساعة، في موقف فكري ينطوي على العجز والاستسلام. إنها مجرد تلبية للحاجة إلى فهم (أي فهم) ودون أن تدفع إلى عمل (أي عمل).

وفي مقابل هذه الواقعية الصورية الساذجة التي لا تعين على معروف ولا تردع عن منكر نجد نموذجًا آخر للعلاقة بين النفس الإنسانية والعالم الخارجي متمثل في: الرغبة في تغيير العالم. وحتى يتمكن الإنسان من تحقيق هذه الرغبة يجب أن يتمتع بالقوة، وليس من الضروري أن يبدّد طاقته في التفكير وفي الفهم وفي التنظير للعدل والإحسان. إنها القوة والسلطة والقدرة على التغيير وحسب. يقول كارل ماركس الأب الروحي للبراجماتية: "ليس مهما أن تفهم العالم، المهم أن تغير العالم". إنه المنطق النفعي الذي يجعل دينزل واشنطن يصيح بأحدهم في أحد أفلامه: "لا تخبرني كيف صمّمّتَ هذه الآلة الحمقاء، أرني فقط كيف تعمل؟". إنه منطق القوة الذي يجعل الأسد في أسطورة يونانية يردّ على الأرانب المطالِبة بالمساواة: "أرني مخالبك!". إن هذه الرغبة في تغيير العالم تستند إلى القوة الغاشمة أكثر من أي شيء آخر، ولا تتورع في سبيل هذه الغاية عن الاصطدام بالضمير الإنساني والحسّ الأخلاقي.

وبناءً على ما سبق فإن الحاجة إلى فهم العالم يجب أن تتلازم مع الرغبة في تغيير العالم، كي يضمن الإنسان أنه في المسار الصحيح. ذلك أن العمل على التغيير دون تصور معرفي مسبق للوسائل والغايات ودون معيار يحكم على صحة التغيير وخيريته ليس من المصلحة في شيء. كما أن التفسير المتسرع للعالم الذي لا هدف له إلا أن يخلص الإنسان من القلق المفيد ويريحه من بذل الجهد الواجب لنقد المعرفة وتوظيفها ليس من المصلحة في شيء أيضًا.

إننا لن نعثر على أحداث ليبيا ولا زلزال اليابان في القرآن الكريم، ولكننا سوف نجد على سبيل المثال قصة إبراهيم عليه السلام وقصة ذي القرنين والملكة بلقيس كنماذج عملية ناجحة للاستخلاف الإنساني. وسوف نقرأ قوله تعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ). وحده الفهم النشط هو السبيل إلى التغيير الرشيد الذي فيه صلاح الدنيا والآخرة.