بينما كانت الساعة العاشرة صباحا يوم الجمعة الماضي، وبعد ليلة مجهدة إلا قليلا، لم يتوقف هاتفي المحمول عن الرنين، أيقظتني أول الأمر زميلة صحفية تتحدث من بريطانيا، استغربت صوت النائم الذي رد على الهاتف، ومع أن الوقت كان مبكرا حسب توقيت لندن للغاية، إلا أنها استيقظت قبل لتقوم بتغطية الأحداث في السعودية، وحين أبدت استغرابها أنني نائم إلى الآن في يوم كهذا، بلغت بها المفاجأة حدا كبيرا حين أبلغتها أنها أجهدت نفسها بالاستيقاظ مبكرا فلا أخبار من (العربية السعودية) لتقوم بتغطيتها في هذا اليوم.

تقول إن ما قرأته في مواقع الإنترنت جعلها تدرك أنها إن لم تستيقظ مبكرة فلن تستطيع الاتصال على أي رقم هاتف في السعودية لأنها توقعت أنه سيتم قطع خطوط الهاتف، وكذلك الإنترنت كما حدث في مصر صبيحة الخامس والعشرين من يناير، لم تستوعب كثيرا ما كنت أقوله، وظنت أن أمرا ما لا أريد الإفصاح عنه، حاولت أن تحصل مني على وعد بمكالمة بعد ظهيرة اليوم، وأجبتها بأنني سأحاول.

بعد الساعة الثالثة عصرا، وبينما كنت خارجا من حوار تلفزيوني في برنامج البيان التالي مع زميلنا (الشرعبرالي) عبدالعزيز قاسم عن الاحتساب في معرض الكتاب، وهي قضية تضاف إلى قوائم قضايانا السعودية التي استنزفنا فيها كثيرا من لياقتنا وجهدنا، فوجئت بكم المكالمات التي لم أرد عليها والرسائل التي تلقيتها، وقد ظننتها أول الأمر حول البرنامج وتحديداً ممن اعتادوا أن يعلقوا على حواراتي التلفزيونية ذات الطابع الجدلي، إلا أن أكثرها كان من زملاء عرب وأجانب وأصدقاء خارج المملكة يسألون عما حدث في الرياض.

توجهت فورا لأذرع طريق الملك فهد وأجوس خلال حاراته الجانبية، حين أردت الدخول إلى إحدى الحارات الجانبية سألت رجل أمن عن إمكانية الدخول وبعد أن تردد وافق على السماح بالدخول ولم ألبث أن عدت بعد جولة سريعة فنظر إليّ باسما بما يوحي بأنه يقول كنت أعرف أنك تريد أن ترى هل من شيء يحدث؟

في الواقع، أجزم أنه وخلاف الإصغاء للأخبار في ذلك اليوم إلا أن شيئا ما لم يتغير في حياة السعوديين، وحتى الاهتمام ومتابعة الأخبار بدا لي أنها في المدن والحواضر حيث ينتشر الاهتمام بمتابعة مواقع الإنترنت وصفحات الفيس بوك وتنتشر أجهزة البلاك بيري وهو ما أوجد ترقبا سينمائيا أكثر من كونه ترقبا لحدث قادم، بل إن بعض التجمعات التي حدثت كان كل من فيها هم من أولئك الفضوليين أمثالي.

لقد كان الحكم الحقيقي والمؤثر الأبرز في إدارة كل الدعوات التي تحث السعوديين على التظاهر والتجمهر هم السعوديين أنفسهم، إذ كانت الاستجابة معدومة للغاية، وبدا الناس الذين كانوا يتصفحون مواقع الإنترنت التي تدعو للمظاهرات أشبه بمن يتابع فيلما سينمائيا أو برنامجا تلفزيونيا، لا يلبث أن يعود إلى حياته وجدوله اليومي بعد أن ينتهي من تلك المشاهدة، دون أن يفكر في تقليد أو تطبيق شيء مما شاهده، وهو ما يطرح سؤالا عما حدث.

من الناحية الثقافية والاجتماعية يدرك السعوديون أن لديهم مطالب، وأنها مطالب حق، وأنهم يؤمنون بها للغاية، لكنهم في الوقت ذاته يعلمون الوسائل والأدوات التي يتخذونها في إدارة مطالبهم تلك، والحصول عليها، إضافة إلى أن الثورات التي قامت في المنطقة كانت ثورات ضد القيادات، وكل السعوديين لا يعيشون مشكلة مع القيادات بدءا من المستوى العاطفي ووصولا إلى إيمانهم أن ثمة هما مشتركا يجمع بينهم وبين القيادة متمثلا في الشكوى الدائمة من التعثر والبيروقراطية وسوء تنفيذ كثير من المشروعات التي تعتمدها القيادة، وغيرها من الإشكالات التي تطرحها الصحافة ووسائل الإعلام السعودية والتي تتسم بمستوى عالٍ من الوضوح والشراكة بين مختلف الشرائح، إضافة إلى ذلك فإن السعوديين أبناء ثقافة محافظة، والثقافات المحافظة ترى في الثورة بالمعنى السافر أمرا معيبا وغير مقبول، في الوقت الذي تؤمن فيه بالاحتجاج والدفاع عن حقوقها ومطالبها إنما بالأدوات والوسائل التي تحظى بقبول ورواج اجتماعي تحفزه الأعراف والقيم المحافظة.

إن الدولة في السعودية لا تمثل جهازا يمكن استبداله ولكنها تمثل محورا أساسيا في قيام الكيان وبنائه، مما يجعل من المستحيل أصلا تعريف الكيان إلا باعتبار الدولة وقيمتها المحورية، ولأن السعوديين يعيشون حالة من الأمان الذي تستجيب له الثقافات المحافظة وتؤمن به وترى فيه مكاسب لا يمكن التفريط بها، مماجعل من الرفض لتلك الدعوات أبرز الإجابات الحاضرة في الوجدان السعودي، ذلك الوجدان الذي ما زال في مراحل التأثر الإيجابي بما تطرحه مؤسساته الثقافية وبما يحصل عليه من قيم ثقافية جديدة نتيجة التفاعل مع العالم، إلا أنه سيزداد إصرارا على السعي لإدارة مطالبه ومستقبله وفق شراكة واعية.

إن النجاح الحقيقي الآن هو نجاح حققه السعوديون بامتياز، وقدموا فيه رؤى واعية بأن المطالب تدار برؤيتهم وبأدواتهم هم، وأن التحدي الذي انطلقت صفارته فورا هو تحدي المسؤولين والأنظمة وإدارة التطلعات الوطنية، وإن السعوديين ليطمحون جدا، أن يكون نجاح المسؤولين والأنظمة التي تدير حياتهم بذات مستوى نجاحهم.