مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي لا يعرف أحد تفاصيله، هو نظرة الإدارة الأميركية منذ زمن بعيد لشرق أوسط يرتمي في أحضانها أكثر مما هو عليه، ويأخذ الأوامر والتعليمات فقط من واشنطن. حاول بوش الصغير وأبوه من قبله، أن يبدآ على أرض الواقع بغزو العراق مرتين، وتعريض أبنائه للجوع والفقر والمرض، والتعذيب والموت على أيدي قواتهما الغازية وأعوانها، والشركات التي تمتهن القتل والترويع لكسب عيشها، لا يختلفون في ذلك عن قطاع الطريق والقراصنة في عرض البحر.
واليوم، في عهد أوباما، الذي سُجل أول فيتو لحكومته في مجلس الأمن ضد الشعب الفلسطيني، بينما يقف هو واعظا يدعو لتحقيق العدالة ونشر الحريات، تسعى حكومته إلى تجسيد مشروع الشرق الأوسط الجديد عن طريق الفوضى التي تروج لها، وتدعو إليها وتدعمها وتباركها. تدعو حكومات الدول التي تتعرض لمقاومة الجموع الشعبية، وصيحات الشباب، بألا تواجه هؤلاء المتظاهرين بالعنف والإفراط في استخدام القوة، وتحذر من اللجوء إلى السلاح ضدهم. وأحيانا تطالب حكومات هذه الدول بتلبية مطالب المتظاهرين، وتقديم التنازلات لهم، ولم يكتفوا حتى طالبوا الحكومات بالتنحي، بل وذهبوا أبعد من ذلك، يرشحون من يخلف النظام، ومن يصلح أو لا يصلح.
إن تجربة إندونيسيا في عهد الرئيس جونسون وهايتي أيام ويلسون تتكرر اليوم، والقصص المروعة وذكرى ما حل بهما من قتل ودمار بدعم ومباركة حكومات الولايات المتحدة في حينها تبعث الخوف، وتثير التساؤلات حول نواياهم الحقيقية المتسترة بقناع المواقف الديموقراطية من أحداث الشرق الأوسط ومخططاتهم فيما يمر به العالم العربي. دأبوا منذ البداية على تفتيت الممالك والإمبراطوريات إلى دويلات لا تمتلك مقومات الدول، أو يضعوها إلى شمالية وجنوبية أو شرقية وغربية، تقف في معسكرات متقابلة يحارب بعضها البعض، تنهكها الحروب وتستنزف ثرواتها صفقات الأسلحة لتبقى دائما في التبعية. ما يريدونه لنا ولكل من هو ملون (وصف يطلقه الأميركيون على غير البيض)، وما عدا بيض الشرف من اليابانيين، أن نصدر لهم المادة الخام ونستورد منهم السلعة، ونبقى أبدا سوقا مفتوحة للنهب وليس للمقايضات المتكافئة. حتى العمالة الرخيصة التي كان العالم الثالث يزودهم بها لبناء اقتصاد أوروبا، أصبحت من الماضي، وحملات التفتيش على المهاجرين غير الشرعيين، وتشديد القوانين على الهجرة من العالم الثالث باتت نموذجا تتبناه دول الغرب بتفاوت في الحدة وبلا استثناء.
ومن تابع الفضائيات الغربية خلال أحداث مصر الأخيرة، وجد في كل خبر يسوقونه عبارات التأكيد على ضرورة المجيء بحكومة تحترم المعاهدات والصفقات المجحفة التي ضربتها الحكومات السابقة مع العدو الصهيوني، وحكومات تسهر على مصالح الغرب وتضمن له سوقا مفتوحة. واليوم نجدهم يرددون عبارات التخوف من نقص إمدادات النفط من الآبار الليبية، أو التخويف من سقوط أسلحة الحكومة في أيدي الإرهابيين، ربما استعدادا لغزو مسلح واحتلال عسكري مغلف، أو صريح كما شهدناه في العراق. فهل تسعى الولايات المتحدة من وراء دعمها لثورات الشباب إلى إحكام قبضتها على مصادر النفط في الشرق الأوسط؟ وهل هذا هو الشرق الأوسط الجديد الذي أرادوا له أن يغرق في الفوضى؟ أم إنها الفوضى الخلاقة التي يروجون لها، لحاجة في نفس الإدارة الأميركية؟، و "الغارة بخت اللص" كما يقولون.
قد لا تكون مؤامرة حيكت كما يجنح إليه البعض، لكن ليس من المستبعد أن يوظف الغرب هذه الأحداث لتمرير أجندته، وفي التاريخ ما يدعم هذه النظرية. وعلينا تفويت الفرصة عليهم، شعوبا وحكومات، وإفشال مخططاتهم، أولا بالمصالحة وثانيا بحرمانهم من التدخل العسكري في أي من الدول العربية، وأخيرا بتفعيل دور جامعة الدول العربية ودفعها إلى مراكز الأحداث.
إنها فرصة نادرة، لتوحيد الصفوف والاجتماع على مستقبل أكثر وفرة وإشراقا وعدلا، تنعم به الأجيال القادمة، ولا تلعن من قبلها. فلنعمل مجتمعين على تحقيق ما عجزت الأجيال قبلنا عن تحقيقه، ومرت عقود أو قرون ونحن على ما نحن عليه. جاء دور جامعة الدول العربية لتكون الراعي للمصالحة، وجاء دور الحكومات والأنظمة العربية في بناء جامعة جديدة تحمل للأمة العربية مشاعل النور في نفق العولمة المظلم، وقادرة على التصدي لأطماع الآخرين وحماية الأرض العربية التي تغتصب في كل يوم، ليل نهار. إنها فرصة تاريخية لنعود أمة واحدة كما تقتضيه الكلمة.
لقد وظفت حكومات الولايات المتحدة الأميركية المختلفة، وعلى فترة طويلة من الزمن، مبدأ الحريات وزايدت على حق تقرير المصير لكسب تعاطف الشعوب، ثم التوت على هذه الشعوب المتحررة ودعمت الحكومات التي تخدم مصالحها وانحازت إلى أجندتها، ثم عملت بعد ذلك على بقائها ما أمكن وسمحت به الظروف، حتى ولو تطلب ذلك التدخل المسلح أو الدعم المادي وتسليح القوات التي تقمع الخارجين على القانون، كما تراهم الحكومات المحلية وتؤيدها مواقف وأفعال الحكومات الأميركية المتعاقبة.
قد ينخدع الكثيرون بالمواقف الإنسانية التي يتبناها الغرب، والكلام المعسول الذي يصاغ بحذر ومكر، كما فعل من قبلنا وصدق الخطاب المناهض للاستعمار وأسطورة حق الشعوب في تقرير المصير، أو حماية الدول من المد الشيوعي الزاحف من الشرق، وعندما ننتبه يكون الوقت قد ولى، وهم يعرفون ذلك ويراهنون عليه.