لو كان البروفيسور الهندي براهالاد سعودياً، ورأى أن نظريته (الثروة في قاع الهرم) قادرة على حل مشاكل السعوديين المتزايدة مع الفقر، لربما بدأ بما أقره في نظريته بجمع الأطراف الأربعة المسؤولة على طاولة واحدة ليوزع عليهم مسؤولياتهم: الجمعيات الخيرية، الحكومة، الشركات، الفقراء. فالجمعيات الخيرية في السعودية تملك معلومات ودراسات تراكمية عن أحوال الفقراء في السعودية، وأسباب فقرهم، وسلوكهم الاجتماعي، بالإضافة إلى إحصاءات حديثة عن أماكن تواجدهم وتجمعهم من أجل توزيع الزكاة والصدقات. هذه المعلومات في عرف الشركات يمكن أن تكون مصدراً أساسياً لإعداد دراسات الجدوى وخطط التسويق، وتحوي كل ما يحتاجونه من تفاصيل تمكنهم من هندسة منتجات وخدمات تناسب الفقراء، وتصل إليهم عن طريق قنوات بيع مبتكرة ومنخفضة التكلفة يكون فيها الفقراء أنفسهم شركاء في إدارة السوق والبيع فيه والاستهلاك منه في نفس الوقت، ولعل أهمها على الإطلاق وفقاً للظروف السعودية الراهنة هي وحدات سكنية منخفضة التكلفة، ووسائل مواصلات تعاونية، وأدوات مدرسية رخيصة، وغيرها. ويأتي الدور الحكومي في تهيئة قاعدة قانونية وتجارية تتيح من خلالها للشركات تقديم هذه المنتجات للفقراء بشكل مربح لها ونافع للفقراء، دون خسارة ولا استغلال، ثم يأتي بعد ذلك دور الفقراء في الخروج من حيز (قبول الصدقة) إلى (انتهاز الفرصة).
قد يبدو هذا السيناريو مبسّطاً ومتفائلاً إلى حد السذاجة، ولكن تفاصيله تحمل عمقاً كافياً ومنطقاً راجحاً. هذا النموذج البسيط تم تطبيقه بنجاح في دول أخرى تنوء تحت وطأة ظروف أصعب بكثير من الحالة السعودية. فإذا كان الشركات قد تمكنت من إيجاد سوق مربحة في دول يقل دخل الفقير فيها عن دولارين يومياً، فمن المتوقع أن تنجح في إيجاد هذا السوق في السعودية التي يتجاوز الدخل اليومي لأفقر فقرائها ذلك المبلغ بعدة أضعاف. وإذا كانت مشكلة الفقر في الدول الأخرى تتداخل بشكل يصعب فصله مع معضلات أخرى كالأمراض الفتاكة، وانعدام البنية التحتية، والحروب المستمرة، فإن الفقر في السعودية يبدو أقل تعقيداً، ويمكن اختصاره بكونه خللاً اقتصادياً في توزيع الثروة وإنعاش السوق، ولاسيما أن كافة الأطراف الأربعة الرئيسة في نظرية براهالاد مستعدة لأداء ذلك العمل، وتملك الموارد الكافية. فالجمعيات الخيرية تنشط منذ عقود في مكافحة الفقر وتوفرت لديها خبراتٌ حان الوقت لأن تستغل في خلق الفرص الدائمة بدلاً من توزيع الصدقات المؤقتة. والحكومة السعودية تنفق بشكل سنويّ مليارات الريالات في مشاريع مكافحة الفقر، وبالتالي لن يكون من الصعب عليها أن تنفق ربع هذا المبلغ لإنشاء جهات رقابية وقانونية متخصصة في مراقبة هذا السوق الناشئ في قاع الهرم. كما أن القطاع الخاص في السعودية كافٍ لأن يحيط بهذا السوق وحده، دون الحاجة إلى دعوة شركات أجنبية مثلما سعى براهالاد إلى ذلك في حيثيات نظريته.
ومن التطبيقات المحتملة لهذه النظرية في السعودية إيجاد مساكن منخفضة التكلفة على غرار ما فعلته شركة حلول الإسكان المصغّر في الهند (micro housing solutions) التي تمكنت من توفير شقق سكنية للفقراء بمعايير مستوفية للسلامة العامة والمجتمع الصحي والكرامة الشخصية في مدن هندية مختلفة بتكلفة لا تتجاوز ستين ألف ريال سعودي لشقة تؤوي أسرة كاملة. وهو ليس مشروعاً خيرياً بل يحقق أرباحاً مجزية دفعت مؤسسيْ الشركة (وهما زوجٌ تخرج من جامعة هارفارد الأميركية، وزوجته مصممة معمارية إيطالية) للتوسع في مناطق أخرى من الهند. ووفق هذه الشريحة السعرية المنخفضة يمكن للأسر الفقيرة أن تمتلك الشقة نظير قسط شهري لا يتجاوز 300 ريال سعودي، ولا أجد حتى الآن أي اختلافات جوهرية بين الهند والسعودية تمنع من تطبيق هذه النموذج التجاري الفعّال، فأسعار العمالة منخفضة، وتكلفة البناء متساوية (بل تكاد تكون أغلى في الهند بسبب النهضة الاقتصادية التي تمر بها)، وتبقى أسعار الأراضي التي يجب أن تلعب الحكومة دوراً في توفيرها بسعر مناسب للمستثمر.
تطبيق آخر يكمن في توفير خدمة الإقراض للطبقة الفقيرة. والبنوك السعودية تشكو دائماً من توفر سيولة كبرى لديها لا تجد لها قنوات استثمارية تناسب حجمها. على الطرف الآخر، يوجد مستهلك فقير يتوق إلى الحصول على قرضٍ منخفض التكلفة ليدفع عجلة حياته إلى الأمام. ومن المعروف أن ما يمنع البنك من إقراض الفقير هو معدل المخاطرة المرتفع الذي تعكسه الملاءة المالية المنخفضة للفقير. هذه المعادلة المكسورة بين البنك والفقير يمكن إصلاحها بتدخل الجمعيات الخيرية التي تساعد البنك في إعداد دراساته الائتمانية وتحديد الفقير الأقدر على التسديد، وتدخل الجهات الحكومية إما بضمان التسديد عن الفقير العاجز عن السداد أو التأكد من كون الفقير قد أنفق المبلغ بشكل واع ومسؤول. وفي حقيقة الأمر أنه لو عجز آلاف الفقراء عن التسديد، وهي حالة مستبعدة جداً، فإن المبلغ الذي ستتكبده الحكومة بالتسديد نيابة عنهم أقل من المبلغ الذي تتكبده الحكومة حالياً، بشكل مباشر وغير مباشر، من جراء عدم توفّر السيولة النقدية بيد الفقير: كأزمة السكن، معدل البطالة، ضعف المشاريع الصغيرة... إلخ. وهذا التطبيق لن يكون ممكناً بدون تعاون الجهات الأربع على خلق هذه الفرصة المربحة للبنوك، والنافعة للفقراء، والدافعة للاقتصاد. فالبنك لن يقرض مع غياب الهيكل القانوني الذي يضمن له حقه، والفقير لن يقترض مع غياب الملاءة المالية التي يتطلبها البنك، ولكن الجمعيات الخيرية قادرة على مساعدة البنك في اتخاذ قراره بالإقراض مثلما أن الحكومة قادرة ببساطة على توفير هيكل قانوني يُشعر الفقير بالمسؤولية والبنك بالأمان.
إذا نظرنا إلى الإمكانات الهائلة التي يتمتع بها كل من القطاع الخاص، والجمعيات الخيرية، والجهات الحكومية في السعودية، وأضفنا إلى ذلك الحالة النسبية الأفضل للفقير السعودي مقارنة بفقراء العالم، وجدنا أن نظرية براهالاد صالحة للتطبيق باحتمالات نجاح مرتفعة جداً. وفي حال نجاح تطبيقها، ولو جزئياً، فإن ذلك سيرفع أعباء كثيرة عن كاهل الحكومة، وذلك بتحمل القطاع الخاص جزءاً من المسؤولية التي كانت الحكومة تعمل على تغطيتها عن طريق إنفاق مباشر بدون عائد، وسيجد القطاع الخاص مساحة إضافية للاستثمار ستحقق له عوائد مباشرة وغير مباشرة، فالمباشرة تتحقق من كسبه لشريحة جديدة من الزبائن في قاع الهرم، وغير المباشرة تتحقق تدريجياً مع تحسن أوضاع الفقراء من جرّاء هذا الفرص التجارية، وانتقالهم إلى الطبقة المتوسطة التي تعتبر شريحة استهلاكية مربحة للقطاع الخاص، وستجد الجمعيات الخيرية دوراً أكبر لتلعبه في تحسين أوضاع الفقراء بدلاً من دورها السابق المقتصر على توزيع الصدقات وغير ذلك. وبالتأكيد، سيجد الفقير فرصاً عديدة لينجو من مصيدة الفقر، وينتقل إلى طبقة اقتصادية أفضل.