لفت نظر الكثيرين البيان الجريء الذي صدر عن وزراء خارجية دول مجلس التعاون في اجتماعيهم الأخيرين في أبوظبي في 7 مارس ثم في الرياض في 11 مارس. إذ أدان الوزراء "الجرائم المرتكبة ضد المدنيين في ليبيا باستخدام الأسلحة الثقيلة والرصاص الحي وتجنيد مرتزقة أجانب، وما نتج عن ذلك من سقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين الأبرياء، مما يشكل انتهاكا خطيراً لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي". وأكدوا "عدم شرعية النظام الليبي القائم" ودعوا إلى إجراء اتصالات مع المجلس الوطني الانتقالي. وطالبوا بدعوة مجلس الأمن الدولي لفرض حظر جوي على ليبيا لحماية المدنيين.
وقد كان لمجلس التعاون بذلك دور ريادي للعمل على حماية المدنيين في ليبيا، فضلاً عن تقديم المساعدات الإنسانية لهم. وكان لهذا القرار غير المعتاد أثر كبير في مجريات الأمور التي تبعت صدور البيان، فقد حذت الجامعة العربية يوم السبت 12 مارس حذو مجلس التعاون في الدعوة إلى فرض حظر جوي على ليبيا، ثم أعقبها الاتحاد الأوروبي يوم الأحد 13 مارس مؤيداً هذه الدعوة.
ولهذا الحدث دلائل كثيرة أخرى، منها الإشارة الواضحة إلى أن الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي قد أفقدت النظام الليبي شرعيته، مما يبرر الاتصال مع الحكومة الانتقالية البديلة.
وأردت اليوم أن أركز على دعوة مجلس الأمن إلى فرض حظر جوي، ومناقشة فرضية ألا يستطيع مجلس الأمن اتخاذ قرار، هل يمكن لمجموعة من الدول التدخل لحماية المدنيين، دون إذن مجلس الأمن؟
وهنا من الضروري مناقشة التطور في النظرة إلى ما يُسمّى بالتدخل الإنساني، أي استخدام القوة للتدخل في دولة أخرى لأغراض إنسانية، أي دون أن يكون هناك تهديد مباشر للدولة أو الدول المتدخلة أو لرعاياها. وربما لم ينقسم المتخصصون في القانون الدولي على قضية بقدر انقسامهم حول التبرير القانوني لاستخدام القوة في هذه الحالات، وأصل الإشكال أن ميثاق الأمم المتحدة ينص على عدم جواز التدخل في قضايا هي "في جوهرها" من الاختصاص القانوني المحلي للدولة، وانبنى على ذلك مبادئ كثيرة، منها مبدأ "عدم التدخل في الشؤون الداخلية" واحترام السيادة الوطنية.
ولا يسمح ميثاق الأمم المتحدة باستخدام القوة إلا في حالتين لا ثالث لهما، الأول هي حالة الدفاع عن النفس عن دولة أو مجموعة من الدول تتعرض للتهديد ويدخل في ذلك حماية رعايا الدولة الذين يتعرضون للتهديد في دولة أخرى، والحالة الثانية هي الحالة التي يقر فيها مجلس الأمن استخدام القوة تنفيذا للفصل السابع من الميثاق.
والسؤال هنا: ماذا لو لم يتمكن مجلس الأمن من التوصل إلى قرار للتدخل في ليبيا؟ هل يظل العالم متفرجاً على الشعب الليبي وهو يهاجم من الجو والبحر والبر بالأسلحة الثقيلة، هل يُسمح للنظام الليبي بالهجوم على شعبه باسم عدم التدخل واحترام مبدأ السيادة؟
فهل مبدأ احترام السيادة مبدأ مطلق؟ ربما كان كذلك لدى وضع ميثاق الأمم المتحدة في عام 1945، ولكن كما نعرف منذ ذلك الوقت أقرت الدول الأعضاء فيها عشرات الاتفاقيات والمواثيق التي تحد من هذه السيادة. وقد تم ذلك بمحض رغبة وإرادة هذه الدول. وأهم هذه المواثيق ما يتعلق بحقوق الإنسان، والتي هي في جوهرها حد من سلطة الدولة تجاه المواطن، والمواثيق المتعلقة بحماية المدنيين أثناء النزاعات المسلحة، وهي تحد، وفق اعتبارات إنسانية بحتة، من حق الدولة في استخدام القوة، حتى عندما تكون مبررة عسكرياً أو سياسياً.
ونعرف أن مبادئ احترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية قد استُخدمت وما زالت تُستخدم من قبل بعض الأنظمة كرخصة لفعل ما تشاء داخل حدودها، وربما كانت أكبر التحديات للمجموعة الدولية ما حدث في العراق وصربيا على وجه الخصوص، وهما دولتان ضربتا عرض الحائط بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان وحماية المدنيين. وفي كلتا الحالتين وقف المجتمع الدولي مشلولاً فترة طويلة قبل أن يتمكن من التدخل لحماية المدنيين، بعد أن سقط عشرات الآلاف من الضحايا. ففي حالة العراق، وبعد انتهاء حربه مع إيران مباشرة، شن حملة على مواطنيه، وهاجم بلدة "حلبجة" بالغازات السامة، وقتل نحو خمسة آلاف من سكانها، ثم بدأ حملته المعروفة بالأنفال والتي نتج عنها قتل وتهجير عشرات الآلاف من الأكراد. كان ذلك في عام 1988، ولم يفعل المجتمع الدولي شيئاً. ولكن عندما عاود النظام الكرة واعتدى على شعبه مرة أخرى في عام 1991، بعد تحرير الكويت، تدخل المجتمع الدولي لحماية المدنيين. وحين فشل مجلس الأمن في فرض حظر جوي، قامت أمريكا وبريطانيا بفرضه خارج نطاق مجلس الأمن.
ولا يتسع المجال لمناقشة ما حدث في كوسوفو، عندما تدخل حزب الناتو عسكريا لحماية المدنيين فيها في عام 1999، بعد أن فشل مجلس الأمن في اتخاذ قرار لحمايتهم.
وقد يواجه الليبيون نفس المصير، إذ إن مجلس الأمن قد يتأخر، أو يعجز تماماً، عن اتخاذ قرار لفرض حظر جوي لحمايتهم من الآلة العسكرية للنظام، نظراً لتقيد بعض أعضائه بمبادئ عدم التدخل واحترام سيادة نظام لا يحترم مواثيق حقوق الإنسان وحماية المدنيين.