لم تعد قوة الأمم والدول تكمن اليوم فيما تملك من أساطيل، وجيوش جرارة، وقوة عسكرية، أياً كانت نوعيتها. فجزيرة صغيرة، ومستعمرة بريطانية سابقة كسنغافورة، بقوتها الاقتصادية، وبالعقول العلمية التي هيأتها، تبدو أكثر قوة وتأثيراً في المجتمع الدولي من إمبراطورية سابقة كبريطانيا مثلاً. وجزيرة صغيرة كتايوان كانت في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، تنافس الأم (الصين) في اقتصادها، وتنوُّع صناعتها، ومبادراتها التجارية المبنية على العلم والخبرة.
وقبل انهيار جدار برلين عام 1989، كانت ألمانيا الغربية بصناعتها، وتقدمها الاقتصادي بفضل علمها الغزير، تنافس ألمانيا الشرقية، بل أوروبا الشرقية كلها.
والأمثلة على امتلاك ناصية العلم كسلاح فعال للتقدم والازدهار، لا تنتهي.
المملكة تحصد ما زرعت
لقد أدركت المملكة هذه الحقيقة. وأخذت منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين بالتوسع في التعليم للذكور والإناث على السواء. وبدأت ثمار هذه الرعاية، وهذا التوسع، تأتي أُكلها عاماً بعد آخر.
وقبل أشهر شهدنا مشاهد علمية سعودية رائعة، تمثلت في بروز الشباب السعودي من الذكور والإناث في مجال الطب والهندسة. وعلمنا عن وجود عالمين سعوديين (ابتسام باظريس، ونادر الحربي) في مشروع تجربة "الانفجار الكبير". وهي أضخم تجربة علمية فيزيائية شهدها العالم في المركز الأوروبي للأبحاث النووية "سيرن"، على الحدود السويسرية الفرنسية، قرب جنيف. وشاركت فيها الباحثة السعودية ابتسام باظريس - وهي طالبة دكتوراه بقسم فيزياء الجزيئات بجامعة جنيف - من خلال برنامج "أطلس"، وهو أحد البرامج الأربعة التي اشتملت عليها التجربة ككل، وأتاحت الانطلاقة الناجحة لتجربة "مصادم الهادرونات الكبير LHC". كما ساهم شابٌ سعودي آخر في هذه التجربة، وهو نادر الحربي. والحربي متخصص في مجال المُعجلات "accelerators" وهي الأجهزة الضخمة التي سمحت بإطلاق البروتونات داخل دوّار مُصادم الهادرونات، البالغ طوله 27 كيلومتراً تحت الأرض، باتجاهات متعاكسة لمصادمتها، وهي في أسرع قوة سيرها. وقالت "الوطن" (13/9/2008)، إن ابتسام باظريس، واحدة مِن ست باحثات سعوديات شابات ساهمن في الأبحاث التمهيدية للتجربة، وذلك في إطار اتفاق وقّعته السعودية مع المركز الأوروبي للأبحاث النووية "سيرن"، لإرسال طلبة وأساتذة للتدريب في المركز. لكن ابتسام باظريس أصبحت اليوم أول امرأة سعودية تشارك في هذه التجربة المثيرة. وربما كانت أول امرأة عربية كذلك.
زهور العلم تتفتح وتنشر عبيرها
وبالأمس القريب قرأنا أخبار الطبيبة السعودية نورة رشاد، كنموذج مشرق للمرأة السعودية من خلال أبحاثها ودراساتها العلمية. ومن ذلك دراستها حول حماية الأطراف من البتر الافتراضي لعلاج التهاب العظام المزمن، في حالات مرضى السكر. واكتشافها طريقة علاج جديدة لحماية الأمعاء من الاستئصال بدون التدخل الجراحي المعتاد. وتستعد نورة رشاد للحصول على درجة الدكتوراه قريباً في التطوير العلاجي لمشاكل التضخم الأورطي. وتم اختيار الطبيبة نورة رشاد كمتحدثة رسمية في "المؤتمر الدولي لجراحة الأوعية الدقيقة" بمدينة "كان" بفرنسا في يوليو 2009، مع أكثر من 1000 طبيب من أشهر الأطباء العالميين في تخصص الأوعية الدموية الدقيقة.
وتستمر البراعم بالتفتح
واليوم نقرأ أخباراً عن مزيد من البراعم العلمية السعودية المتفتحة. فقد تمكن أربعة شبان مخترعين، من نيل أربع جوائز في معرض إنتل للعلوم والهندسة (ISEF 2010)، الذي أقيم في "سان هوزيه" بأمريكا ( 9 - 14 مايو 2010). وفاز في هذا المعرض الطالب عبدالعزيز الغنيم بالمركز الثاني في مجال العلوم الاجتماعية والسلوكية بمشروعه " قوة الألعاب" . كما فاز ثلاثة طلاب آخرون هم: أحمد الحميد، وفهد المشرف، وعبدالعزيز المقيرن بالمركز الرابع في مجال البيولوجيا الخلوية والجزئية بمشروعهم "قياس الحساسية الإشعاعية للمتلازمة المشابهة للاختلاج المرتبط بتمدد الأوعية الشعرية ATLD والمسح الوراثي للمتلازمة في المجتمع السعودي". وحاز الطلاب: حمود المطيري، وراكان المطيري، وسعود الحربي على المركز الرابع في مجال العلوم البيئية بمشروعهم "دراسة العناصر الثقيلة في مهد الذهب". كما حقق الطلاب: حمود المطيري، وراكان المطيري، وسعود الحربي، المركز الأول ضمن الجوائز الخاصة، والمقدمة من "المعهد الأمريكي لعلوم الأرض". باقة جميلة تستحق التكريم.
ويأتي فوز هؤلاء الطلاب، وتميزهم من بين 1611 طالبا مشاركا في المعرض الدولي لهذا العام، يمثلون 64 دولة. وهـي أكـبر مشـاركة طـلابية دولية، مـنذ بدء هذا المعرض الدولي قبل 60 عاماً.
وبهذا الفوز تكون المملكة، قد حققت مراكز متقدمة في هذا المعرض، متفوقةً بذلك على ألمانيا، وبريطانيا، ومنافسةً دولاً متقدمة كاليابان، وكوريا الجنوبية، والهند.
لقد اعتادت "مؤسسة الفكر العربي"، بقيادة رئيسها الأمير خالد الفيصل تكريم المواهب الشبابية العربية في كل عام. وهذه الباقة الجميلة من الشباب السعودي الموهوب والمختَرع، تستحق التكريم والاحتفاء بها، لكي تكون أمثولة تُحتذى لباقي الشباب في الجد والاجتهاد.