بوعي معتبر ومميز يفرق بين المعنى والمقصد كان مقال الزميل د/ عبدالله الفوزان في قراءته لخطاب خادم الحرمين الشريفين الذي يشكر فيه هيئة كبار العلماء على فتوى تجريم تمويل الإرهاب، وكونه قراءة تستقصي العمق النفسي لا الاكتفاء بالمعنى الظاهر للخطاب، يراه خطاب عتاب أكثر منه شكرا، وسواء اتفق القارئ معه أو اختلف إلا أنه يبقى قراءة جديرة بالتأمل وإن من زوايا علاقاتية بتفاصيله، تتجاوز مفهوم الشكر والعتب، لعل أبرزها حساسية مصطلح "الإرهاب"، والتباس مفهومه الوافد بالمفهوم القرآني، وتأكيده الإشكالية بخلو بيان الهيئة من تعريف محدد وواضح وشامل للإرهاب، واعتباره ذلك مجرد "صيغة يمكن القول عنها إنها خروج من الحرج" أو بـ"الإضافة التي سقطت سهواً". ومن هذا المنطلق منطلق إشكالية المصطلح أنطلق لتأكيد وجهة نظر زميلي د/الفوزان، فهناك عدة مصطلحات ملتبسة تسبب اضطراباً في التصنيف وموضعته في مجاله الصحيح تجريماً أو براءة، وكما مصطلح الإرهاب جاء في القرآن في موضع الاستعداد للدفاع عن النفس وصد العدوان، إلا أنه يخرج للدلالة على الاعتداء عندما يكون استعداداً للتعدي وترويع الآمنين والجناية على الأنفس والأموال والأوطان "وهو التفسير الحديث للمصطلح". هناك ألفاظ أخرى تحمل ذات التخوف وتثير ذات الإشكالية، كمصطلح "البغاة" فالبعض يعدّ الإرهابي باغيا ويصنفه كتصنيف الفقهاء في باب "البغاة" متحرجاً من إدانته، كونه فقط مسلما، بغض النظر عن الاعتداء من عدمه. وبناء على الخلط في تفسير آية "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي... الآية" رغم ما ورد في أسباب نزولها من روايات عديدة تجمع على معنى الاختلاف على أمر بسيط لا يوجب قتالا بالمعنى الحرفي للقتال، كما روى السدي لنزولها في رجل من الأنصار وامرأته اختلفا فبعثت المرأة لأهلها، واستعان الرجل بأهله، فتدافعوا واجتلدوا بالنعال، فنزلت الآية وبعث رسول الله وأصلح بينهم.
وما رواه سعيد بن جبير أن الأوس والخزرج كان بينهما قتال بالسعف والنعال فأنزل الله هذه الآية فأمر بالصلح بينهما، فالضرب لا يكاد يتجاوز الجريد والأيدي والنعال، يتأكد ذلك بروايات كثيرة مشابهة في تفسير الشوكاني والطبري وابن كثير والبغوي والألوسي وغيرهم.
إلا أن إنزال الآيات على غير منازلها يؤدي بابتعاد مفهوم الآية الكريمة للبغي عن تعريف الفقهاء الشرعي للبغاة بقولهم: "هم قوم لهم قوة ومنعة يخرجون على الإمام بتأويل سائغ"، وإصدار أحكام مخصصة للبغاة وردت في كتاب الفقه لطالبات الصف الثاني ثانوي كالتالي:
"يحرم قتال البغاة بالقذائف المدمرة، كما يحرم قتل ذريتهم وجريحهم ومدبرهم، ومن ترك القتال منهم ومن أسر يحبس حتى تخمد الفتنة، ولا تغنم أموالهم، وما ذهب حال المقاتلة من الأنفس والأموال فهو غير مضمون إلا من وجد ماله بعينه فإنه يأخذه". وبتجاوز اختيار المصطلح إلى الخلط بين زمن تلك الأحكام المرتبط ببداية تكوين الدولة الإسلامية وبين زماننا المحدد بدول مستقلة سياسياً وحدوداً جغرافية، إلا أن إصرار البعض على إسقاط حكم الباغي على الإرهابي المعتدي على النفس لهو سبب جدير بإعادة التفكير والتفسير وربط المصطلحات بظروفها وزمانها ومكانها وبيئاتها، فهل تلك الأحكام المتراخية مع البغاة "كما وردت في كتب الفقه لا كما في الآية الكريمة" تكفي أو تناسب من يقتل ويفتك بالأنفس والأرواح والممتلكات، وهو "الإرهابي"؟!
إنه خلط يوجب النظر في المناهج ومناسبتها للعصر، فورود أحكام البغاة يناسب متخصص فقه، لا طالبة في الصف الثاني الثانوي، مما يضع علامة استفهام لفائدته، والأوجب تناوله بقالب عصري لا بزمان غير زماننا.
ويزداد التوهم بربط البعض مصطلح البغاة بجملة علي بن أبي طالب رضي الله عنه "إخواننا بغوا علينا" رغم قصده المباين لتوهمهم الذي يحصره بالصحابة ممن قاتلوه في الجمل وصفين. وهو ربط يفتقد التفريق بين الأشخاص وصفاتهم، ويخلط بين الخوارج المارقين وأهل الجمل وصفين، فمن أدرج الإرهابي بالخوارج لم يعارض مصطلح الإرهاب، ومن أدرجه بالبغاة فيرفضه وينأى بالإرهابيين عن المحاسبة والعقاب الشديد.
فالبغاة ضالون على رأي الفقهاء، لكن الخوارج مارقون مفسدون، وهم الأقرب معنى للإرهابيين من حيث إقدامهم على إزهاق الأرواح والتجرؤ على الإفساد والإهلاك "حرثاً ونسلاً".
وبالالتفات لخاتمة بيان هيئة كبار العلماء الوصية للمسلمين "بالتمسك بالدين، والكف عن كل عمل من شأنه الإضرار بالناس والتعدي عليهم" فنصيحة عامة تفتقر للعلمية الساعية لتجفيف منابع الإرهاب وتجاوز حدود تجريم التمويل إلى اتخاذ برنامج وطني شامل وبخطوات جادة تحكم القبضة على تغذيته المادية والفكرية، فمن الطبيعي باعترافنا بجريمة الإرهاب إلحاقها بتجريم مموليه، لكن أين نصيب أساساته الضاربة في جوف الفكر الإرهابي، ما مصيرها من التجريم؟ أين مغذيات الروح الإرهابية للإرهابي؟ وما حق تفكيك البنى التحتية لمكونات هذه النفسية التي ملأت الإرهابي غضبا وكراهية وحقدا. إن أهم أساس جذري للإرهاب هو فتاوى التكفير والتفسيق والزندقة والتضليل وغيرها من الألفاظ التي تثير الشحناء وتنبت الكراهية وتهتك الأمن وتنشر البغي والظلم، وتصادر حريات الأفراد في الرأي والضمير والمعتقد.
وكما الحاجة لتجفيف منابع الإرهاب المادي المنفذة للخطط الشيطانية ماسة، فالأولى تفكيك التجذر الفكري المتغذي على الفكر التكفيري، فالتسامح مع فتاوى التكفير يجعل أرواح الناس على كف عفريت يلتقطها أحد الضالين ليفرغ غضبه في أي مختلف عنه، وما الاختراقات الأمنية التي آخرها ما حصل في مؤسسة الجزيرة الصحفية إلا إفراز لتلك التعبئة الفكرية بفتاوى التكفير.
لنثبت لأنفسنا قبل العالم أننا بغاة سلام وأمن وحماة رأي وحرية، ونتخذ برنامجا وطنيا لتجريم كل مناصر للعنف قولا وعملا، ونفرض عقوبات صارمة على منتهكيه، فلو كان التكفير جنة ونارا لما كان هذا التردد في تجريمه ومنعه!
وكما أن غاية الوجود البشري تحقيق السعادة والخير للبشرية جمعاء من خلال العدالة والتسامح وأنسنة المفاهيم، فإن المحافظة على مكتسبات الإنسانية والتطور والعصرية تتطلب منا إغلاق فتاوى التشدد والتعصب والعنصرية بكافة أنواعها، وتجريم التكفير ومحاكمة المحرضين على الكراهية والإرهاب، لنعبر حقيقة عن تطلع خادم الحرمين الشريفين في خطاب شكره، إذ قال:
"نتوخى جميعا الحق بدليله، ونسمو بالقول كما نسمو بالعمل".