الوصاية على الكتاب لا تنفع أبداً، وما هو موجود على مواقع الإنترنت أخطر بكثير ولا يمكن منعه أبداَ، والوصول إليه في متناول الجميع وفي كل وقت، ومع ذلك تُجبر بعض الكتب القادمة إلى معرض الكتاب على الارتياح من وعثاء السفر بعد قدومها مباشرة، وتوضع تحت الطاولة بسبب العنوان فقط، وربما قبل أن تُقرأ رقابياً حتى، وعليك ألا تستغرب أو تدقق كثيراً في المسألة؛ إذ ستكون الكتب نفسها فوق الطاولة في العام القادم دون أن يعرف أحد لماذا مرة فوق ومرة تحت؟! ويبدو أن زوار معرض الرياض الدولي للكتاب يعرفون ذلك جيداً وتعودوا عليه في كل عام؛ فتجدهم يسألون البائع مباشرة عما تحت الطاولة وليس عما فوقها، حتى إن مثقفين كباراً يشاركون الزوار العاديين البحث أيضاً عما تحت الطاولة.. لكن ليس بالضرورة أن كل ما يمرر من تحت الطاولة يستحق القراءة، أو حتى عناء البحث والالتفات؛ إذ قد يوضع في هذا المكان الهادئ والمثير في نفس الوقت كتاب عادي جداً؛ بسبب رأي مجتهد توقف به التفكير عند قراءة العنوان أو الإهداء ثم أصدر عليه حكماً أحادياً جائراً، وبالتالي قام بدعاية مجانية من غير قصد، أو قد تكون جملة شاردة هي التي أودت بمستقبل كتاب بريء، وجعلته يُحرم من الضوء والتداول؛ وبالطبع فإن كل ما يدور تحت الطاولة من أفكار ومواقف وكتب؛ يمكن اعتباره أيضاً مرحلة لا بد منها لما لم نتعود على قراءته أو حتى سماعه، أو بالأحرى محطة أولية للحرية التي يتحسس منها المجتمع عادة ويعتبرها صادمة للوهلة الأولى؛ ثم لا يلبث أن يُقبل عليها في اقتناء الكتب وفي غيرها، ويتصالح معها بعد أن يتأكد من انصراف السادة المحتسبين. ومهما كانت آراؤنا متفاوتة حول ما يُسمح به وما لا يسمح من فوق أو تحت الطاولة؛ فإن من يحدد سقف الحرية في النهاية هو تلك الأعداد الكبيرة التي تأتي من أجل الكتاب، وتستمتع به قراءة وإهداءً وحتى تصفحاً. إنها الحرية خطوة خطوة، وهي شيء طبيعي في مجتمع لم يعرف معارض الكتب الدولية إلا قبل سنوات!

ولذلك لا أتفق مع من يقول إن إقبال الناس على المعرض هو ظاهرة شرائية فقط؛ أعتقد أن الأمر أعمق من ذلك بكثير، وأن الناس يأتون بالفعل لشراء كتب يقرؤونها وليس لقتل الوقت أو التسلية عن طريق الشراء؛ فهناك أماكن أخرى جميلة ومعروفة تنفع للتسلية والاستهلاك أفضل من معرض الكتاب؛ إن كانت المسألة استهلاكاً فقط. ويبدو أن المقولة الشهيرة التي تتحدث بثقة أن العرب أمة لا تقرأ قد تغيرت لدينا، أو على الأقل هي في طريقها إلى التغير، وإن كانت لم تغادر أذهان بعض مثقفينا الأعزاء بعد.

هناك في المعرض مفارقات كثيرة ومدهشة غير حكاية الطاولة، ومنها: أن بعض الكتاب وصلوا لدرجة لا تحتمل من التضخم والإحساس بالأنا الكاذبة، ويعتقدون أنهم حكاية أساسية في كل معرض كتاب، ولذلك يتفاخرون بأن كتبهم ممنوعة في المعرض؛ بل إن بعضهم يُشيع عن كتابه المنع وهو أمام الناس على الطاولة لم تبع منه نسخة واحدة؛ بالرغم من تفنن الناشر في تحريكه وتغيير زوايا عرضه!، هناك أيضاً قبائل متعددة للمثقفين في معرض الكتاب يمكن مشاهدتها والتعرف على انفعالاتها وتوجهاتها ببساطة، وكل قبيلة ترى في نفسها العلو والهيمنة والتميز، وتعتقد أنها تجاوزت المجتمع في التفكير والمعرفة والنضج، وحين تستمع إلى ما يطرحه هؤلاء لا تملك إلا أن تردد بينك وبين نفسك (سلامتها أم حسن)، أما بالنسبة لإخواننا المحتسبين فأنا لا أعتقد أن النساء اللاتي حضرن إلى المعرض قد جئن من أجل فتنة الرجال؛ بل العكس يمكن اعتبارهن شريحة نسائية واعية وراقية ومثقفة جداً تحاول أن تعيش حياتها، وتعشق القراءة والاطلاع والتقدم نحو مستقبل وآفاق المعرفة، وليست مشكلتهن إن كن جميلات بالفطرة ولهن عيون ساحرة؛ فالله هو الخالق، وإن أثرن فعلاً فتنة الشباب المحتسبين ـ كما يدعون ـ فليغضوا البصر وتنتهي حكاية كل عام.. بالتأكيد سننتظر المعرض القادم؛ لكن نتمنى ألا يأتي إلينا ونحن نجتر نفس المشكلات النمطية التي حدثت هذا العام وفي الأعوام الماضية، وأولها الاحتساب العشوائي، ومفارقات ما تحت الطاولة!