ظهرت في الآونة الأخيرة العديد من الكتابات التي تتحدث عن المثقف، سواء نتج ذلك عن الدراسات الأكاديمية مباشرة أو بفعل الجهود الذاتية للأفراد لكن المهم هو ألا تنحصر المعرفة لهذا الكائن بحدود التخصص، بل تمتد إلى أكثر من ذلك من المعرفة الموسوعية والاطلاع الشامل مع القدرة على التفكير والتمييز بكل ما له علاقة بالواقع.

إن المثقف كظاهرة يُعد إفرازاً من إفرازات نشأة الجامعات والمعاهد العلمية ومراكز الأبحاث الحديثة، وكيف أنها وضعت بصماتها في البنية العقلية لوعي المثقف، والممارسة المعرفية التي يكون الواقع هو الرافد الرئيسي لها.

وفي المقابل، نجد أن العالم الحديث يتوجه نحو التخصص في كل العلوم، بل وكيف تنهض أمة يغدو كل فرد من أفرادها فقيهاً وطبيباً ومهندساً في آنٍ واحد، حتى يقال إن الأمة التي لا تحترم التخصصات؛ هي أمة لا تحترم نفسها، ولن توفق للنهوض. لكن هناك من يعترض على المثقف، وأن آراءه يعتريها التخبط والخلط والتشويش بزعم أنه ليس من أهل الاختصاص.

إن السؤال الذي يطرح نفسه: هل كل ما يصدر من المختص يقبل من غير إهمال؟ وهل كل ما يصدر من غير المختص يهمل من غير قبول؟

علماء التنمية البشرية يقرون بأن البنية العقلية للإنسان عموماً توجد بها عناصر الحدس والخيال والتجريد والوجدان، إذ يستطيع من خلالها الإنسان الممارسة المعرفية، ولا فرق في ذلك بين المختص وغيره، حيث تذكر الدراسات الأنثروبولوجية أن الوجدان العقلي كاشف للعلم، يتساوى فيه الجميع حتى مع عدم القدرة على تقديم الأدلة التقنية والعلمية، فمثلاً نجد أن الكثير من الناس يؤمنون بوجود الله سبحانه وتعالى ووحدانيته اعتماداً على الوجدان، وليس بفعل الدليل العلمي التخصصي، ولكن آلية هذا الاعتقاد تكتشف بفعل ما يقوم به العقل الباطن بين تراكمات الإحساس والقرائن الدالة على الاعتقاد، وهذا ما نبه إليه القرآن الكريم بالتذكير في تأمل الآيات الكونية، وبداعة نظامها وجدانياً، بلا حاجة لصناعة الدليل والصياغة المنطقية في قوله تعالى (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت) (الغاشية).

ذهب رائد علم الاجتماع ابن خلدون في مقدمته إلى ترجيح رؤية غير المختص على رؤية الفقيه المختص المتوغل في الصنعة الاستدلالية الصرفة التي إن طالت قد تزيد الوقوع في الخطأ من كثرة هذه التنطعات الدقيقة، والتي يتم إسقاطها على الواقع إسقاطا، فالمتخصص غالبا يستنطق النص، ولا يستنطق الواقع، على طريقة قول الشاعر: فلا توغلن إذا ما سبحت... فإن السلامة في الساحل. ويشاركه رائد الإصلاح والتنوير محمد عبده في كتاب (الأعمال الكاملة) الذي يعتقد بأن اليقين الصادق لا يتوقف على البرهان والتخصص.

ولعل هذا ما يستوحى من القول المأثور (استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك)، من أن الحجة المعرفية ليست رهينة المختص، بل يشاركه في ذلك غير المختص، حيث يتحدث ابن القيم (في إعلام الموقعين): (لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه، وحاك في صدره من قبوله، وتردد فيها). وبالطبع لا يقصد من الحديث الحكم بالتحليل والتحريم وفق الهوى والرغبات، إنما يخاطب المؤمن صاحب القلب السليم.

مما يدل على أهمية رأي غير المختص؛ فإنه لا بد من معرفة أن المختص يمارس دور التأسيس في الدليل، أما المثقف، فنتيجة لسعة اطلاعه على المعارف الفكرية المتنوعة، وما يحمله من تصورات، فإن ذلك يؤهله للنظر فيما يقدمه المختص من أدلة. لذلك أجد أنه من المهم التأكيد على أهمية التعاون الفكري بين المختص والمثقف، في الوقت الذي نجد فيه أن علماء قارة يتبادلون معلوماتهم مع علماء قارة أخرى.

صحيح أن المرتكزات المعرفية حاضرة ومشخصة بالوعي والإدراك لدى المختص، وهي ليست كذلك بالنسبة للمثقف، بمعنى أن هناك كلية للفقه، يتخرج منها المختص لكي يصبح فقيهاً، لكن بطبيعة الحال ليس هناك تخصص يسمى ثقافة، يتخرج منه الإنسان ليصبح مثقفاً. ما أريد أن أصل إليه هو أن الوعي والشخوص من عدمه؛ لا يشكلان محوراً للتمايز في القابلية على الفهم والتوليد المعرفي، وبمعنى آخر، يمكن أن تكون هناك ممارسة لا واعية يقوم بها العقل الباطن من شأنها تحديد العملية المعرفية، كما لو كانت ممنطقة، وذلك بعد اكتساب المهارات والخبرات المعرفية التي ينفتح عليها عقل الباحث، فمثلاً كصاحب اللغة الذي يتمرس في استخدامها وضبطها، وإن لم يتعرف على آلياتها ومنطقها الخاص كعلم تخصصي.

إن علينا احترام التخصص، لكن في المقابل، فإن ذلك لا يدعو إلى تكريس ثقافة الصمت وكم الأفواه، إنما القضية أن يتحدث الإنسان وفق ما يعلم من القواعد المبرهنة سواء كان متخصصاً أو غير متخصص.

بعد هذا العرض هل يحق لنا تقزيم المثقف الديني بجعجعة الاختصاص! إنني أتساءل لماذا المثقف فقط؟ إنني أتصور أن المثقف همه الديني هو التنوير، ولكن على طريقته فهو ميال بطبعه إلى الحس النقدي الذي لا يفارقه، بل هو يراهن بكينونته كلها على هذا الحس، وأنه على غير استعداد للقبول بالصيغ السهلة أو الأفكار الجاهزة، مما يثير حفيظة البعض الذين يميلون غالباً إلى أساليب التهدئة.

أخيراً، من المؤسف ألا نرى تعاونا فعليا بين المختصين والمثقفين، وبهذا لا يمكن أن نتوقع تقدماً وحلاً للمشاكل التي نعيشها، مثل ما حصل في مسألة تحريم عمل النساء في الكاشيرات، فإذا شخصنا المشكلة بشكل صحيح، فإن من السهل إيجاد حلول كتنفيذ مجمع علمي للفقه، يتم فيه النقاش بين المثقفين والمتخصصين، حتى يستمر فقهنا في طريق التكامل.