هل للإقامة في مكانٍ غير البلد الأم تأثيرها على الإبداع النسوي السعودي؟، وهل تختلف طقوس الكتابة الإبداعية باختلاف المكان؟، وهل لظروف المجتمع وتقاليده دور في فرار المبدعة إلى مكانٍ آخر تراه أكثر بوحا؟.

"الوطن رصدت آراء عدد من المبدعات السعوديات حول هذه التساؤلات.

في البداية رأت الروائية السعودية أميمة الخميس أن الإقامة الطويلة في (كندا) كانت مذهلة ومفعمة بالدهشة؛ وبحسب قولها فإنها استطاعت أن تعيد اكتشاف الوطن من نوافذ الحنين وعتبات الشجن؛ وعلى ما ترى فإن للغربة مفعولها السحري في حث الطاقات الإبداعية، بما تمنحه الرؤية الطازجة النضرة المشبعة بالذهول، وتؤسس الخميس تنظيراتها على ثيمة تخصيب الكتابة بشجن البعد.

وتطرح الخميس مفارقة نمطية اليومي المنطفئ، مستمتعةً بالغربة من حيث هي ترياق النمطي المنكفئ على يقينه، وتقول: "في الخارج نقارب مساحات الوطن بودٍ أمومي وكمٍّ أقل من المحاسبة والنقمة، بل نصبح أكثر تسامحا وتفهما لمواطن النقص والقصور". وترى الخميس أنّ المغترب الذي يعيش في بلد متفوق حضاريا يحتفظ بجزء خبيث من شعور ناقم على الوطن، فينبت على هوامش تجربته إحساس طاغ بالفوقية والتميز.

وتشارك الشاعرة بديعة كشغري سابقتها في مكان إقامتها بكندا (8 سنوات)، وعلى الرغم من استنزاف تلك الفترة لطاقاتها الإبداعية، ومع تعقيد ظروفها الشخصية والأسرية لها إلاّ أنها أصدرت ثلاثة دواوين هناك، منها ديوان مزدوج اللغة الذي كان استجابة لطقس المكان الآخر، حيث أحست بحاجة المتلقي الكندي إلى قراءة المنتج العربي بلغته السائدة هناك. وفي حديثها تقول كشغري: ".. كنت أرتاد المقاهي والملتقيات الثقافية في العاصمة ذات التعددية الإثنية والثقافية، ولا شك أن هناك قيمة فكرية كبرى تتحقق في إطار جغرافي آخر بكل ما يحمل الموقع من أبعاد سياسية واجتماعية وحقوقية قيم ومفاهيم ثقافية".

وتحدد كشغري الفائدة في اتجاهين: العلاقة المعرفية بالذات وبالآخر، فمكان الإقامة يهيئ فرصاً لا حدود لها للتفاعل مع الطرف الثاني في المعادلة المعرفية، ومحاولاته الجادة في التعرف إليها هوية وثقافة لها خصوصيتها، لاسيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي تزامن حدوثها مع بداية العام الثالث لإقامتها في كندا.

وتبين كشغري أن المتأمل لنصوصها يجد أنها تعبر عن مضامين التسامح وقيم الحوار مع التمسك بالهوية. وتضيف أنّ إقامتها مكنتها من تأسيس صالون أدبي ترتاده نخبة من المهتمين بالشأن الثقافي من الجاليات العربية واسعة الأطياف.

وترى كشغري أن تلك الخصوصية الفردية العالية المتاحة تحقق للفكر استقلاليته، وللهوية تأصلها ونموها في جو من الممارسة الموضوعية المتوازنة.

وعلى النقيض من تجربة كشغري تذكر القاصة شريفة الشملان أن إقامتها لم تكن من أجل الإبداع إنما لأمور أخرى، ومع ذلك تطورت بها تجربتها الإبداعية وعرفتها بحياة الشعوب ونّّمت لديها فضولاً لمعرفة الجديد والمختلف.

وترى الخميس أنّ أكثر الأمكنة حرية في هذا العالم هي الورقة البيضاء، وكما تصفها بأنها حريتها وأجنحتها، بل هي غرفة الغولة التي تستفزها لاقتراف الغامض المحجوب. وتقول إنّ كل ورقة تكتبها هي استرداد لهويتها وملامح إنسانيتها، وهي بالتالي تحرير لغرفة من غرفات (الحرملك). وتعتقد أن اقتراف الكتابة هو أهم فعل تحرري قامت به المرأة في العصر الحديث.

وتنظر القاصة شريفة الشملان إلى الأمر من منظور حقوقيي "إنسانية المرأة تتمثل في قرارها، وحقها في تقرير نمط حياتها، والتنقل معرفة مكتسبة وجزء من الإبداع أو ربما خالقة للإبداع، ومانحة للفكرة السريعة وللتحفيز، لكن كل ذلك يعتمد على المبدع الفعلي"، وتضيف الشملان: ولعل في صفوف الدرس الجامعية أهمية كبرى للمبدعة كما في المكتبات العامة والمتخصصة، علاوةً على الندوات والمؤتمرات الأدبية والإبداعية بما فيها من فرص جيدة لتلاقح الأفكار والسمو بها.

ولكن الشملان لا تلبث أن تكاشف بأنّ المسألة تظل مرهونةً بحركة المبدعة التي تحكمها الظروف الأسرية والتقاليد والعرف مما يضيع فرصا كبيرة عليها.

إقامة الأديبة خارج وطنها في رأي الشاعرة كشغري سلاح ذو حدين، فالمقيم المغترب الطوعي أو القسري يتعلم أن الوطن هو لحظة عشق يختارها حتى الممات مثلما فعل أغلب الأدباء المنفيين، وترى أنّ الإقامة في المغترَب المختلف، وبخاصة إن كان أوروبياً أو أميركياً، بيئة لنمو الثقافة العربية المعاصرة، مما حفزها على تصحيح مثل هذه المفاهيم عبر مشاركتها في أنشطة ثقافية مختلفة، بالإضافة إلى عملها محاضرةً في معهد الثقافات المتداخلة/ المتبادلة، التابع لوزارة الخارجية الكندية إبان أزمة الحادي عشر من سبتمبر.

وبوصفها أنثى لم تكن قضيتها الأولى في المغترب هي التحرر من السلطة الذكورية ورقابة الأسرة، مضيفةً أنها ربما بحكم نشأتها في أسرة معتدلة تمارس الوسطية لم يكن ذلك غريباً عليها.

وبعد عودتها تشعر كشغري بمحاسن إقامتها الجغرافية القصية، بقولها: "كنت قد تحررت حقا من ملوثات البيئة الثقافية التي ما برحت تتنامى على الرغم من الحراك الثقافي الذي شهدته المملكة"، وتمثل كشغري لذلك بالمحيط حولها الذي لا يبدي كثيرا من الترحيب بالطروحات النسوية المفعمة بالمفردات من نوع السلطة الذكورية وخلافها من مفردات يحتشد بها الخطاب النسوي.

وترى الروائية الخميس أن التحدي الذي تخوضه النساء هو في التخلص من الاحتقان الداخلي والغضب الذي يسببه لها محيطها الخانق، وتحلق عبر هبة المخيلة، مضيفةً أنّ إبداع المرأة هو صك حريتها كما أنّ خوض المرأة في الحديث الذي كانت تستأثر به مجالس الرجل, وتأليفها الإبداعي يفكك القيود التاريخية من حولها. والمبدعة عندما تمسك القلم تكون متحررة إبداعيا من وجهة نظر الخميس والشملان حيث ربط الاستقلال الذهني بالكتابة والتحرر بالمكان الجديد والخلاص من سيطرة السابق، دون تناسي أن الرقيب الذاتي هو أشد المراقبين حضوراً. وفي منظور الخميس فإن الاستقلال الذاتي هو خيال لا يمكن الإمساك به، حيث تطاردها مكنونات الجدة القابعة في وجدانها مهما تحركت وتحررت خارجياً.

وتصف الشملان رحلة الإقامة في المكان الآخر بقولها: "تبدأ الرحلة، ولكنها رحلة الجسد وتغير المكان، حيث الاخضرار والعالم المتمدن، حيث المكتبات والطرق والسينمات، عالم ليس كالعالم الذي أعرفه، وعشت بسلام داخله، ربما أشعل وهج التفكير في داخلي، وربما أخافني فجعلني عبر الحقيبة/ الجسد أحاول أن أصوغ لي جداراً كما تفعل لؤلؤة في الخليج".

وتتفق الخميس مع الشملان، فلا تعتقد أن الجغرافيا تسهم كثيراً في التأثير على العملية الإبداعية, بقدر ما تحاول رصد علاقتها مع محيطها بشكل يشبه عيناً ثالثة عملاقة تخرج منها وترقب المشهد عن كثب, وتصرّح بأنّ "الغربة ليست فعلا جغرافيا عندما تنقلك الطائرة من مكان إلى آخر، بل تتحدد العلاقة مع الغربة بنوعية الحقيبة التي سترافقك ومخزونك الثقافي, وعلاقتك مع المختلف, والطريقة التي تقابل بها الهيكل الثقافي للآخر, وكيف ستقاربه!". وتدلل بقولها: "... وكم من أشخاص غادروا الوطن لسنوات طويلة لكن ظلوا مغلقين ومقرطسين داخل ذواتهم, الأمر الذي يجعلهم على الدوام يعيشون بمنزل يجاور مزرعة نخيل في إحدى ضواحي الرياض!".

وتحدد كشغري تأثير إقامتها في الخارج على نصوصها بجرأة الطرح وثيمة الاغتراب والحنين، كأنها كانت لا تقيم في الخارج بل ترتحل يوميا نحو الوطن ومكتسبات أخرى تتلخص في أن اللغة هي الوطن والكلمات هي رحم الانتماء الأول.

وترى الخميس أن السؤال مغلف بإدانة مسبقة, وتصف تجربتها بقولها: "إذا كنت في حالة كتابة فلا بد أن أقوم بطقوسي الخاصة التي أعتبر نفسي من خلالها كالمريد الذي يتصعد في مراتبه حتى يحظى بحالة الحلول الإبداعي"، وتضيف أنها خلال أيام الأسبوع تستصدر قانونا داخل منزلها فيشبه المعسكر, فلا زيارات إلا فيما ندر وضمن حدود الواجب، وداخل مكتبها تهيئ للإبداع متكأ, وتشترط أن يكون المكتب مهندما معقما, وتمثل الخميس لذلك بأنها عندما شرعت في كتابة روايتها (البحريات) استزرعت في مكتبها نافورة, وكانت تشعلها طوال فترة كتابتها, وتقول: "... كنت أريد من صوت المياه وروحها أن تحل بالمكان، كنت أود أن تصبح كل كلمة رطبة نضرة, حتى أكون أمينة لحوريات البحر".

وتعتقد الخميس أن هذه الطقوس مهمة بالنسبة لها لأنها أولا تفصلها عن اليومي المعيش, ومن ناحية أخرى تشعرها بجلال وهيبة الكتابة. وأثناء السفر يستفزها مشهد يظل بداخلها وقد تدونه في دفتر صغير فقط, بانتظار أن تتقهقر إلى مكتبها وتعيد صياغته: "فمثلا طوال تواجدي العام الماضي في مدينة فينا كانت تتردد على لساني جملة لم أستطع تدوينها إلا عندما عدت إلى الرياض, وأمنت. فكُتبت داخل مكتبي. الأسبوع الماضي كنت في مدينة اسطنبول, وكنت طوال الوقت في حالة شهقة ودهشة متصلة فيما يتعلق بالثراء التاريخي والتراث الفني هناك, كنت أشعر بأنني بحاجة إلى عين ثالثة ترصد كل هذا الزخم, حولي, لكن أيضا لم أكتب إلا بعدما عدت إلى الرياض".

والكتابة عند الشملان حياة تحياها وتحب معها الناس وترى مشاكلهم زادها اليومي، كما أن الإبداع لديها ليس عزلة لكنه اندماج وتلاقح وحميمية: "فقط أغلق باب غرفة المكتب عندما أفرغه (أي الإبداع) على الورق، ويتوهج داخل الصفحات البيض ليملأ بياضها بضجيجه". وترى أنّ العزلة لا تجلب الإلهام، إنما تأتي به أنفاس الناس ورائحة العود والقهوة المبهرة بالهيل والزعفران برفقة الجمع الذي نحب، وتقول: لا أطلب إلا الهدوء حيث يتحرك القلم. وبالرغم من أهمية الغربة فإن الخميس تعتقد أن المعمل الحقيقي هو في المكان الأول لتجربة الإقامة وهو الوطن. أما إقامة الخميس فتجلّت في روايتها (الوارفة)، التي قالت عنها: "كان تصويري لتجربة الطبيبة الجوهرة في مدينة تورنتو, ينطلق من خارطة جغرافية ونفسية واجتماعية واضحة في ذهني, ابدأ من أماكن الشوارع إلى طبيعة المفاجأة التي تترصد بفتاة شرقية تزور مملكة الثلوج أقصى العالم".

وعند الشملان فإن إقامتها كانت بين أكثر من مكان، وفي ذلك تقول: "مكان ممتلئ بروائح التاريخ، في بغداد عرفت كيف للمدن شخصية مميزة وكيف تحفر المدن في القلب وتتربع، أربع سنوات في بغداد كانت بصمة للعمر كله، وأمضيت في فرنسا ثلاثة أشهر، ثم مدينة مونبليه تلك المدينة الهادئة على البحر الأبيض المتوسط. وتحدثت عن تحربتي مع فرنسا فيما سبق، وهي نقلة كبيرة، تركت أثر خفيفا كم سار على رمال ليست له، مرّ، تمتّع، وسمع، وسبح، قليلا ثم انتهى الأمر، غير بقايا ذكريات".