ظاهرة الفساد والمغالاة في تكلفة المشاريع الكبيرة عندنا كتب عنها الكثير، وعلى الرغم من ذلك لم أقرأ أو أسمع أي معالجة، أو معاقبة، ومعروف أن كل فساد لا بد أن تفوح روائحه، وآخر تلك الروائح القوية جاءت من شركة سعودي أوجيه، ووصلت لأنوفنا عبر نوافذ صحيفة السفير اللبنانية وصحيفة سبق الإلكترونية السعودية، وصحيفة إيلاف اللندنية، ومنتديات أعمال الخليج، ومع أن الروائح كانت كريهة، إلا أنها لم تعالج ولا حتى بطارد الروائح، حيث ظلت تنتشر، ولا (حس ولا خبر) ونتمنى أن يصدر تكذيب، أو تفسير لما حصل.

ملخص ما نشر أن مجموعة من العاملين الكبار في سعودي أوجيه، حصلوا على رشاوى بلغت جملتها في حدود (500) مليون دولار من مقاولين من الباطن (لبنانيين) أسندت لهم الشركة أعمالاً مسندة لها في الأصل من جهات حكومية سعودية، وتفصيل الخبر أن هؤلاء المقاولين اللبنانيين الذين يدفعون الرشاوى لمسؤولي شركة سعودي أوجيه هم أصلاً غير متخصصين في الأعمال الموكلة إليهم، ولكنهم عبارة عن جسر، فهم يأخذون العمل من سعودي أوجيه بتدبير من المسؤولين فيها ثم يسندونه إلى شركات متخصصة بمبلغ يقل كثيراً عن المبلغ الذي حدد لهم من سعودي أوجيه والفرق بين المبلغ المحدد لهم والمبلغ الذي اتفقوا عليه مع الشركات التي يسندون لها الأعمال يتقاسمونه بينهم وبين المسؤولين في شركة سعودي أوجيه فيأخذون حصتهم، ويدفعون للمسؤولين في الشركة حصتهم (الرشوة) ويقول الخبر إن السلطات السعودية قد أصبحت على علم بالأمر، وأنها تطارد المسؤولين في الشركة الذين أخذوا الرشاوى وقد تم القبض على سبعة منهم، ومازالت تطارد آخرين غادروا المملكة إلى لبنان.

وكما هو واضح من فحوى هذا الخبر فإن الحالة تبدو وكأنها حالة فساد واختلاسات تعرضت لها شركة سعودي أوجيه وأن الأموال المسروقة أو على الأصح المنهوبة بهذه الطريقة مسروقة ومنهوبة من سعودي أوجيه، وأن المطاردة هي بغرض رد الأموال للشركة، وهذا الوجه من الصورة الواضح لا يعنيني في هذا المقال، بل الذي يهمني ويعنيني هو الوجه الآخر من الصورة، أو على الأصح الوجه الحقيقي الذي يوضح أن النهب أصلاً إن كان قد حصل فعلاً فهو من مالنا العام، فما يفهم مما نشر هو أن المسؤولين في سعودي أوجيه عندما كانوا يسندون الأعمال للمقاولين اللبنانيين من الباطن بالمبالغ التي يتفق عليها كانوا آخذين في اعتبارهم أن هناك ربحا للشركة، أي أن الأعمال أسندت لشركة سعودي أوجيه في الأصل بمبالغ خيالية أعطت الفرصة للمسؤولين في الشركة ليسندوا الأعمال لمقاولين (من الباطن) بمبالغ تقل عن تلك المبالغ الأصلية الخيالية، وهذه المبالغ الأقل التي تم الاتفاق عليها مع المقاولين (من الباطن) ظلت أيضاً خيالية بحيث أعطت الفرصة لهؤلاء المقاولين لإسناد الأعمال لشركات أخرى (من الباطن) أيضاً بفارق كبير، وهذا الفارق الكبير اقتسموه بينهم وبين المسؤولين في سعودي أوجيه.

ولإيضاح الصورة فإن الخبر أورد مثالاً افتراضياً فقال إن سعودي أوجيه توكل مثلاً إلى شركة متخصصة في الكهرباء مشروعاً عقارياً بعقد قيمته (20) مليون دولار، فتقوم هذه الشركة غير المتخصصة بإيكال المهمة إلى شركة أخرى متخصصة بـ4 ملايين دولار، فيكون الفرق 16 مليون دولار، تحتفظ هي بمبلغ 8 ملايين دولار هو حصتها وتعطي المسؤولين في سعودي أوجيه 8 ملايين دولار.

الذي يهمني الآن ليس مبالغ الرشاوى التي استلمها المسؤولون في سعودي أوجيه، ولا حتى المبالغ المماثلة لها التي وفرتها الشركات أو المقاولون غير المتخصصين اللبنانيين (كما ورد في الخبر) ولكن الذي يهمني هو جملة تلك المبالغ الضخمة التي تمثل الفرق بين التكلفة الحقيقية للعمل كما نفذته الشركات المتخصصة (4) ملايين دولار كما ورد في الخبر (افتراضي) والـ(20) مليون دولار ، وهو مبلغ الترسية للمقاول من الباطن، بالإضافة للمبلغ الذي تكون سعودي أوجيه قد كسبته أصلاً من المشروع لأن المسؤولين فيها (المرتشين) عندما يرسون المشروع (من الباطن) بـ(20) مليون دولار فلا بد أن ما مكنهم من ذلك أنهم بذلك قد حققوا ربحاً كثيراً للشركة نفترض أنه مماثل لحصتهم على الأقل 8 ملايين دولار فيكون المشروع في الأصل قد رسي على سعودي أوجيه بمبلغ 28 مليون دولار افتراضا، وتكلفة تنفيذه الحقيقية 4 ملايين دولار.

والسؤال الجوهري دائماً يأتي في الأخير.. فعمل تكلفته التقريبية مع أرباح المقاول في حدود 4 ملايين دولار لماذا تتم ترسيته على الشركة بـ28 مليون دولار..؟؟ هل يعقل أن تعطى الشركة كل هذا الفرق الهائل هكذا ببلاش..؟؟ ألا يحتمل أن هناك مستفيداً أول وأن المشروع بالتالي لم تتم ترسيته بـ28 مليون دولار بل بأكثر من ذلك وأن الفرق هو حصة ذلك المستفيد الأول..؟؟ فكم حصة هذا المستفيد الأول، وكم ستبلغ إذن تكلفة المشروع الحقيقية يا ترى..؟؟

في مقال سابق نوّهت إلى ما ذكره سماحة المفتي في خطبة الجمعة من نقد شديد لمشاريع تنفذ بأكثر من قيمتها الحقيقية بكثير، ورشاوى تدفعها شركات حتى ترسى العقود عليها باستمرار، وبعمليات تبادل لمشاريع بطريقة التكليف من الباطن عدة مرات وتحقق أرباحاً كبيرة لجميع الذين تبادلوها الأمر الذي يؤكد وجود الفساد والغش.

هل ما قصده سماحة المفتي هذه الحالة التي نشرت تفاصيلها صحيفة السفير أم أن لديه حالات أخرى..؟؟ على أي حال إذا تأكد وجود الحالة التي نشرتها السفير فقد تكون نموذجا لحالات كثيرة أخرى في الشركة نفسها وفي شركات أخرى.

والوضع إذن – كما يبدو مما نشر ولم يتم نفيه – بالغ الخطورة، فروائح الفساد زكمت الأنوف، ولا بد من المعالجة السريعة، ليس بمزيل الروائح، وإنما بالقضاء على مصدرها..