اختتم بجامعة طيبة مؤخرا مؤتمر: "دور الجامعات العربية في تعزيز مبدأ الوسطية بين الشباب العربي"، وأسأل الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يجزي المسؤولين فيها خيراً على أن منحوني بدعوتهم الكريمة فرصة التشرف بالسلام على سيد البشر؛ سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والصلاة في مسجده، وحضور فعاليات ما نظموه مشكورين بكل مهارة وحفاوة. حديث وشجون موضوع المؤتمر ذكرني بقول سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "عليكم بالنمط الأوسط، به يلحق التالي، وإليه يرجع الغالي". ـ النمط الأوسط هو الصراط العدل، والتالي معناه المقصر، والغالي هو من بالغ وتجاوز الحد ـ. ذات الموضوع أيضاً قدم عني رغبة تفريغ مقالي عن النمط الأوسط، خاصة وأن الكل يشهد بوضوح أن تيار الوسطية ـ والكلام سيأتي عنه لاحقا ـ قد فرض اسمه في الساحة الإسلامية.
يقول الشيخ ابن الأثير ـ رحمه الله ـ في كتابه المشهور "النهاية في غريب الحديث والأثر؛ 5/184"، في بيان أفضلية التوسط: "كل خصلة محمودة لها طرفان مذمومان". وبالاعتماد على ما سبق، يمكنني أن أذكر أن الوسطية هي (الاعتدال بين طرفين مذمومين) كالسخاء وسط بين البخل والتبذير، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور، وحالة التوازن وسط بين التشدد والتهاون، والغلو والتقصير وهكذا..
ما من شك في أن الفكر الإسلامي المعتدل، هو أساس الارتقاء بالأمة، بل ـ كما ردد ويردد العقلاء ـ إن الفكر الوسطي الرافض للغلو والتشدد والتزمت، في العقائد والمفاهيم والممارسات هو واجب الوقت في ظل الظروف الدقيقة المحيطة، وأنه لا بد من الحرص على إخراج الصورة الإنسانية الإسلامية، إلى حياة متوازنة قادرة على إثبات وجودها، من خلال حوارها مع غيرها، بعقلية مستنيرة، ومتفتحة، وفاهمة ومتفهمة لحقيقة نظرة الإسلام إلى الاعتراف باختلاف الناس عن بعضهم، لا اختلاف الناس مع بعضهم.
إن هذا الفهم الدقيق للاختلاف عن، وليس الاختلاف مع، يتطلب الدعوة إلى تبني النهج الوسطي وترسيخه في نفوس الناس، وإقناعهم بأثره الإيجابي، والانفتاح على مختلف الثقافات، واعتماد تطبيق عدم الإفراط أو التفريط، وعدم التهوين أو التهويل. ويعني ذلك ـ كذلك ـ المواءمة بين الثوابت والمتغيرات، وفهم النصوص الجزئية في ضوء المقاصد الكلية، والتشديد في الأصول والكليات، والتيسير في الفروع والجزئيات والفتوى والدعوة، والفهم الكلي للدين بوصفه ديناً ودنيا، والتعاون في المتفق عليه، والتسامح في المختلف فيه، والانتباه إلى أثر الزمان والمكان والإنسان في كل مناحي الإنسان الشرعية والحياتية، والجمع بين القوة الدينية والقوة الاقتصادية، وتحرير المرأة من السلبيات، ومنحها كامل الإيجابيات، والحرص على البناء وليس الهدم، والجمع وليس التفريق، والفهم الصحيح للماضي لأجل معايشة الحاضر واستبصار المستقبل، والتصالح مع وارثي موروثاتنا؛ أتباع المذاهب الفقهية.
ختاماً أقول إن الوسطية هي أساس التفكير والتطبيق، فهي التي تأخذ بتأصيل النص وتأويله وتطبيقه، وهي التي تبحث في سبب الدليل، وتعتمد على فقهه شرعاً وتاريخاً، وهي منهج شامل لكل المعاملات، والعلاقات، بل وكل طرائق التفكير السديد، وفيها حلول الانحرافات العامة والخاصة مثل التشدد والغلو، والإيمان بالخرافة والشعوذة، والقراءات الحداثية غير المنضبطة، والعولمة غير المتوافقة، والنزاع والتخاصم المذهبي والعقائدي. ولتجنب ذلك ما علينا إلا الاستفادة من جميع الوسائل المشروعة لتعزيز الحوار والتواصل فيما بيننا.