لن تحتاج إلى أكثر من 10 دقائق تخصصها لجولة سريعة وخاطفة على الصحف المحلية الورقية والإلكترونية ومنتديات الحوار لتكتشف أن حوارات مجتمعنا "الساخنة" دائما تدور في حلقة مفرغة منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى الآن، وفي كل الأحوال لن تخرج عن صراعات حول قضايا استهلكت كل تفكيرنا وأوقاتنا مثل (المرأة والهيئة، الحداثة والليبرالية، التغريب)، فمهما تعددت المسميات فإن نهرها يصب دائما في بحر هذه المصطلحات التي يلوكها الجميع منذ عشرات السنين، حيث يجمع بعض المراقبين على أن الساحة الثقافية في المملكة لم تشهد منذ بداية التسعينات الميلادية وحتى الآن أي طرح فكري جديد وجاد، تثار حوله الأسئلة العميقة التي تحسم الجدل (الطائش) والمجاني وغير المثمر، فطغى على السطح الحوار القديم الذي استهلك قضايا تجاوزها الزمن. وهنا يمكن التساؤل: ما هو السبب في توقف حركة الفكر والطرح الجديد في مجتمعنا؟

تغريد خارج السرب

في هذا الإطار يرى عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى الدكتور صالح الزهراني أنه يمكن أن نقول: إن لدينا مفكرين مختلفين في قيمة ما يطرحون، لكن ليس لدينا حركة فكرية، هناك أقلام معدودة تكتب لبعضها، وحوار وسجال أحيانا يدور بين النخب في مجموعات بريدية ومواقع إلكترونية، وقليل من الصحف، ولكن الناس مصروفون عن صراع النخب لعدم الثقة بما يطرحون، ولانشغال المواطن بقوت يومه، ولأن النخب لم تقدم له حلا انصرف عنها. أما جامعاتنا فهي تغرد خارج السرب، وهي غارقة في مشكلاتها، وغير مؤهلة لقيادة دور تنويري للمجتمع في ظل الجو الأكاديمي الذي يسيطر عليها، ولن تكون مؤثرة إلا بتغيير شامل في رؤيتها وممارساتها، ولا أعتقد أنها مؤهلة لذلك في القريب العاجل.

لكن للكاتب المتخصص في قضايا الفكر الإسلامي محمد المحمود رأيا آخر في هذه النقطة، حيث يقول: (في تصوري أن لتوقف حركة الفكر أسبابا كثيرة، لعل أهمها: هيمنة رؤية واحدة على مجمل النشاط الفكري بل والاجتماعي في كافة المستويات، وهي رؤية لا تقبل الحراك إلا في اتجاه واحد ولخدمة غاية واحدة. ويزيد الأمر سوءا أن هذا الاتجاه الأحادي ليس اتجاها منحازا إلى رؤى التنوير والانفتاح، بل هو اتجاه تقليدي تلقيني، أي اتجاه نقل وحفظ وتكرار واجترار، وليس اتجاه عقل وفكر وتساؤل ومراجعة. ولا شك أن سيادة توجه فكري على هذا النحو من الانغلاق سيقمع حركة الفكر؛ لأنه ـ بالضرورة ـ وجود مضاد للتفكير).

ويتابع المحمود: (هذا السبب يقود إلى سبب ثان ذي علاقة بالسبب الأول، وهو تعطيل وتعطيب وتهميش التنوع الفكري والاجتماعي لصالح صورة نمطية واحدة. فإذا عرفنا أن الفكر ـ تحرك ونماء ـ لا يجد نفسه إلا من خلال التنوع، أدركنا أن تعطيل التنوع هو تعطيل للفكر ذاته؛ لأن الأفكار لا تتحاور ولا تتجادل مع ذاتها، بل مع الأفكار الأخرى التي تقف منها على الاختلاف أو على التضاد). وعن دور الجامعات والمؤسسات الثقافية في تحريك الراكد يتفق المحمود إلى حد كبير مع رؤية الزهراني، فيقول: (الجامعات والمؤسسات الثقافية، وخاصة الرسمية منها ليست أكثر من انعكاس لما يحدث في المجتمع؛ لأنها لم تأت من كوكب آخر، ولا تمارس فاعليتها في فراغ مطلق. وحتى لو جد فيها من يحاول التفكير والتحرك خارج الأقواس، فهو لن يستطيع الفعل إلا من خلال مداهنة الثقافة السائدة، أي أنه سيعزز من وجودها ولو على المستوى الرمزي من حيث هو يحاول نقضها).

غياب الفلسفة والاجتهادات الفردية

وفي اتجاه متوسط بين رأيي الزهراني والمحمود يلفت القاص والكاتب أحمد بوقري ـ الذي عاصر حوارات وصراعات الثمانينات الميلادية بين أنصار الحداثة ومناوئيها ـ النظر إلى (أننا لا يمكننا أن نشير إلى أن هناك حركة فكرية متماسكة، وفي سياق تراكمي كانت حاضرة في مجتمعنا لكي تتوقف..!). ويضيف: (كانت هناك ـ في واقع الأمر ـ جهود فردية خاصة لمفكرين وباحثين كتبوا ولمعوا فكريا في مدى زمني محدود وتماسوا نقديا مع انبثاقات الحركة الإبداعية الجديدة في بعض محطاتها، ولا يمكننا أن نعد ما كتبه تركي الحمد أو إبراهيم البليهي أو خالد الدخيل أو غازي القصيبي أو غيرهم في الثمانينات من القرن الماضي، يندرج تحت منظومة فكرية متماسكة وممنهجة لكي نقول إن الحركة الفكرية التي أنتجتها هذه المنظومة قد توقفت مسيرتها).

ويعتبر بوقري غياب دور الجامعات الفكري تخليقا وإبداعا وتأثيرا من أهم أسباب "قتامة المشهد الفكري في بلادنا"، ويقول: (لايمكننا الحديث بثقة تامة بأن القدرة البحثية النظرية والعلمية والفلسفية المبدعة في جامعاتنا هي من الحضور بمكان، واستطاعت أن تهيئ المناخات والبيئة الفكرية الحقيقية خاصة ونحن نرى غيابا فادحا لأقسام الفلسفة والعلوم الإنسانية.. فلا أرضية أكاديمية صلبة يمكن لحركة فكر علمي ومنهجي الانطلاق منها لكي تستطيع أن ترفد تلك الجهود الفردية وتلملمها في سياق تراكمي.. ناهيك أن السلطة الثقافية التقليدية وهيمنتها على الخطاب المجتمعي وهويته وقفت حائلا دون تطوير هذه القدرة البحثية سواء داخل أروقة الجامعات أو خارجها بل كانت تركن إلى الاعتقاد أن أي فكر جديد يساءل ويختلف ويخلخل المفاهيم المتخشبة إنما هو فكر دخيل و"هدام" حتى لو لم يكن متطرقا في أطروحاته لمسائل دينية كما حدث مع كتاب الغذامي النقدي الأول "الخطيئة والتكفير".. مثل هذه التهمة وتهم مثيلة الجمت هذه المجهودات الفكرية أو النقدية. بل وضعت كل الحركة الإبداعية الجديدة التي احتدم أوارها في الثمانينات من القرن الماضي تحت الشبهات والإدانات والتهجمات).

قيادة مشروع التفكير بصوت مسموع

وفي اتجاه معاكس لآراء الزهراني والمحمود وبوقري ينظر القاص والإعلامي محمد المنقري ـ أحد راصدي صراع الحداثة والصحوة في حينه ـ بتفاؤل أكبر للحركة الثقافية والفكرية في المملكة، حيث يعتقد (أن المرحلة الراهنة تشهد حركة نماء مدهش على كافة الأصعدة إذ استطاعت أصوات كثيرة قيادة مشروع التفكير بصوت مسموع وغير متوجِّس خلاف ما كان رائجا في فترة مضت سادت فيها نخبوية الخطاب وعنف ردة الفعل، حيث كان الصوت المفكر والمثير للجدل تمثله شريحة محددة من المثقفين والأدباء على وجه الخصوص، وكان الخصوم على درجة أقل من الإيمان بحق الناس في التعبير عن قناعاتهم وأسئلتهم تجاه الأشياء، وحركة الزمن، وتحركات الفعل الإنساني فنشأت أشكال من الخطاب الممزوج بروح الوصاية وعقلية "الأخ الأكبر" مع مجانبة حقيقية لكثير من أدبيات "الاختلاف" أو "الخلاف"). ويضيف المنقري: (اليوم تتسع دائرة صانعي الفكر الحر والمتجدد ابتداء من رموز ينتمون للمؤسسة الدينية خرجوا بأطروحات صادمة ربما لم يكن أحد يتوقع أن يأتي زمن مناقشتها وليس "تدشينها" من قبل هؤلاء، مرورا بالصحافة التي تتيح فرصة مذهلة لحركة النقد وفكر التغيير، كما أن المؤسسة الأكاديمية عادت لتمارس دورها النبيل في صناعة التغيير وليس التفكير فيه فحسب، وذلك يتمثل في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية).

ويشير المنقري إلى أدلة أخرى تدعم تفاؤله منها أن (هناك حركة مخاض فكرية قد لا تبدو مخرجاتها الآن لكنها تتشكّل لتصب غدا في النهر الحياتي الأكثر تغييرا، وأقصد بذلك وفود البعثات التي خرجت إلى أرجاء المعمورة وستعود غدا لقيادة حركة تغيير أتوقع أنها ستحدث صدمة جديدة لمجتمع يتأقلم بطيئا مع الصدمات).

الخطاب العشائري المأزوم وصراع الديكة

التساؤل المهم الذي نبحث له عن إجابة، هل أفلس مثقفونا فلم يستطع أحدهم الخروج بمشروع فكري تنويري حقيقي يخرج المجتمع من دوامة القضايا الهامشية التي يتناولها الإعلام يوميا؟

وهنا يعود الدكتور صالح الزهراني للتأكيد على أن (خطابنا الثقافي خطاب مأزوم، فهو خطاب عشائري مسكون بالهواجس، والتنافي، ولم يتخلق لدينا خطاب مدني). ويدلل الزهراني على رأيه هذا بالقول (انظر إلى حواراتنا التي تجري، فهي صراع ديكة تبحث عن الغلبة أكثر من بحثها عن الحق). ويستدرك (لكن هذا نوع من الطلق الحضاري العسير الذي تمر به المجتمعات في مراحل التحول، وعصر الانفتاح الذي نعيشه، والضغوط التي تمارس على الخطاب من الخارج كفيلة بتهذيبه، والتحولات اليوم لا بأس بها، وعلينا استثمارها لبناء كتلة حرجة من الفكر المتوازن. اليوم لدينا أهم قضية وهي قضية الإصلاح، وهناك حراك قوي يتشكل، وخطاب يتجمع حوله المثقفون بمختلف أطيافهم، وهو الحصان الرابح، أما عدا ذلك، فقد تجاوزه الزمن، وهموم الناس قادرة على أن تجمعهم حول خطاب الإصلاح، وهو قادم بقوة، وسيكون له سطوة في القريب العاجل.

محرقة فكرية لم تقض على الحداثة

وينفي محمد المحمود أن يكون "التفكير توقف تماما"، ويضيف: (لكن كانت المحرقة التي أقامها بعض الصحويين للفكر ولكل أشكال التنوع في الفكر والحياة جديرة بأن تكبح الانبعاث الفكري والأدبي في فترة استثنائية، أي في الفترة التي صنعت الجيل الحالي الفاعل في المجال الاقتصادي والفكري والأدبي والإداري. ولو أن هذا الجيل نما نموا طبيعيا وفق الخط العام لنهاية السبعينات وبداية الثمانينات؛ لكان حالنا اليوم أفضل بكثير مما هو عليه الآن).

ولأن الحداثة كانت محور معظم صراعات التيارات الفكرية فإن المحمود يؤكد أن معركتها (لم تنتهِ بهزيمة الحداثة أو بتراجعها فحسب، وإنما انتهت بإشاعة ثقافة اليأس لدى جيل كامل من المؤمنين آنذاك بثقافة التنوير وضرورة التغيير. وهذا يعني أن كثيرا من المسائل التي من المفترض أنها حسمت آنذاك، واعتبرت من ذكريات الماضي لم تحسم، ولا تزال عالقة إلى اليوم. فكان علينا اليوم أن ننجز ما كان يفترض إنجازه قبل ثلاثة عقود كاملة، أي أن علينا إعادة مضغ الحداثة وموقف الإسلام منها؛ ليس لفقر في قضايانا، وإنما لأن هناك قضايا أولية لا تزال عالقة، ولا يمكن القفز عليها. وهذا يكشف لنا جناية الفكر التقليدي علينا، فهو لا يعطلنا عن قضايانا الآنية فحسب، وإنما يربك أولوياتنا على مدى عدة أجيال، ويجعلنا دائما في حالة دفع الثمن على تأخرنا في إنجاز الحلول).

القضايا المثيرة للجدل مرتبطة بالواقع

ويعتقد المنقري أن سبب تكرار إثارة قضايا محددة بعينها منذ سنوات يعود إلى أنها (قضايا أكثر ارتباطا بحياة الناس وأن كثيرا منها أكثر واقعية واقترابا من آليات العقل العلمي). ويدلل على هذا الطرح بقضايا مثل (التواصل مع الآخر، احترام حقوق الإنسان، الاعتراف بالمرأة شريكا في المجتمع، تطوير المؤسسة التربوية، قضايا الإصلاح ومحاربة الفساد، إعمال مؤسسات المجتمع المدني، الدعوة إلى احترام الفنون الجميلة وفنون الأداء وترقية المجتمع بالتعامل معها واعتبارها من أسس التوازن النفسي والمعرفي) وهي قضايا ـ حسب رأي المنقري ـ يقود إشعال فتيلها كثير من المشتغلين بالهاجس المعرفي والثقافي والإعلامي في آن واحد، ويشاركهم أقطاب من أبناء المؤسسة الدينية كان لهم إسهام كبير في مسألة تحريك المياه الراكدة وإن انشغلوا أحيانا بقضايا هامشية. ومع ذلك تكتسب هذه العمليات أهمية بالغة باعتبارها تمارين للعقل الذي عُرف عنه سلفا التآلف مع الساكن والسِّلمي ملتمسا ومتضامنا مع "درء المفسدة".