بعد أن انتهيت من قراءة كتاب المؤرخ الإسرائيلي/البريطاني آفي شلايم الأخير «إسرائيل وفلسطين: إعادة تقييمات، مراجعات، تفنيدات» الصادر منتصف 2009 في بريطانيا عن دار فيرسو للنشر Verso. قررت فورا ترجمة بعض ما جاء فيه. يتكون الكتاب من 4 فصول تحتوي على 30 مادة تقع في 392 صفحة من الحجم الكبير، نشرها شلايم سابقا كمقالات وحوارات في مطبوعات هامة مثل جريدة الغارديان اللندنية، ومجلة نيويورك رفيو أوف بوكس، ولندن ريفيو أوف بوكس، وجويش كرونيكل وغيرها. ونظرا لكون هذه المقالات في غاية الأهمية والإثارة وتحتوي على متعة فكرية مذهلة، قررت إعادة تصفح الكتاب بسرعة لكي أختار أفضلها للقارئ العربي. وكانت المفارقة المدهشة أنني وجدت مقدمة الكتاب في قمة الأهمية وتستحق الترجمة قبل أي مادة من مواد الكتاب لأنها تلخص رؤية المؤلف وهدف الكتاب كما تقدم - وهذا الأهم بالنسبة لي -درسا تطبيقيا نادرا ومدهشا عن فن مراجعة وإعادة قراءة وكتابة التاريخ بتجرد وحياد يصل لدرجة الإبهار، وفيه نقد مدهش للذات واعتراف المؤلف بتفوق المفكر الفلسطيني/الأمريكي الكبير الراحل إدوارد سعيد رحمه الله على المؤلف في تحليل معاهدة أوسلو لعام 1993 ومثل هذه الأمور الفكرية نادرة الحدوث بل ربما مستحيلة التحقق في ثقافتنا العربية البائسة. واخترت للمقدمة عنوانا معبرا من عندي. والكلمات التي بين (قوسين) للمترجم كالعادة وكذلك علامات التعجب/التأثر. وقد لا أتفق مع بعض فذلكات شلايم القانونية/السياسية ولكنني لا أملك في النهاية سوى أن أرفع قبعتي تحية له على جرأته وحياده المبهرين لصدورهما من مؤرخ إسرائيلي عتيد.


تعريف بالمؤلف

ولد في بغداد عام 1945 لوالدين يهوديين ثم هاجر ونشأ في إسرائيل حيث خدم في الجيش الإسرائيلي في منتصف الستينيات، ثم حصل على البكالوريوس في العلاقات الدولية من «كلية كامبرديج للاقتصاد» المرموقة ومن ثم حصل على الماجستير في العلاقات الدولية من «كلية لندن للاقتصاد» الشهيرة وأخيرا حصل على الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة ريدنج البريطانية المعروفة. يتقن شلايم تماما وبطلاقة اللغة العربية والعبرية والإنجليزية كتابة وتحدثا. ويحمل الجنسية البريطانية مع جنسيته الإسرائيلية. وهو حاليا زميل باحث في كلية سانت أنتوني التابعة لجامعة أكسفورد والمتخصصة في تدريس علوم السياسة والعلاقات الدولية والاقتصاد حيث يعمل أستاذا في تخصص «العلاقات الدولية». كما حظي مؤخرا بشرف رفيع عندما انتخب أيضا كزميل Fellow في «الأكاديمية البريطانية» British Academy العريقة عام 2006 وهو أرفع منصب بحثي في هذه الأكاديمية ذات الشهرة العالمية فائقة الصيت. والأكاديمية البريطانية هي أرفع مؤسسة علمية وطنية في المملكة المتحدة بل في العالم في تخصص الإنسانيات والعلوم الاجتماعية وتعتبر الرائدة عالميا في تقدم وتطور هذين المجالين الهامين. أسست بقرار ملكي في 1902 وعدد زملائها الآن أكثر من 900 عالم وعالمة فقط ولكنهم نخبة النخبة في العالم، وهي مستقلة وذاتية الحكم. يدل الاختيار في زمالة الأكاديمية على تميز علمي عال وعالمي لا نظير له في أحد فروع الإنسانيات أو العلوم الاجتماعية مؤكدا ومشفوعا بأعمال مطبوعة طبعا. وتمنح الأكاديمية 11 جائزة وميدالية رفيعة سنويا في جميع فروع المعرفة التابعة لها.

يقول شلايم عن نفسه في مقدمة أحدث كتبه «إسرائيل وفلسطين: إعادة تقييم، مراجعات، وتفنيدات» : «أنتمي إلى مجموعة صغيرة من العلماء الذين يطلق عليه أحيانا «المؤرخون المراجعون الإسرائيليون» Revisionist Israeli Historians وأحيانا: «المؤرخون الجدد» New Historians المجموعة الأصلية شملت: بيني موريس Benny Morris من «جامعة بن غوريون»، وإيلان بابي Illan Pappé من «جامعة حيفا». لقد سمونا «المؤرخون الجدد» لأننا تحدينا الرواية الصهيونية الرسمية السائدة والمعتمدة عالميا لأسباب النزاع العربي الإسرائيلي، وتحدينا تحديدا «الخرافات» العديدة حول تكوين دولة إسرائيل والحرب العربية الإسرائيلية الأولى عام 1948». ويقول شلايم عن مهمة المؤرخ: «دور المؤرخ الحقيقي أن يُخضع الأحداث أو الادعاءات الرئيسة في الرواية التاريخية للمراجعة وللنقد العلمي الموضوعي الصارم بدون تحيز ولا هوى لأي طرف وذلك في ضوء جميع المصادر والمراجع المتوفرة بعد تلك الحادثة التاريخية من وثائق أرشيفية وكتب سيرة ذاتية وشهود وغيرها».

للبروفسور شلايم العديد من المؤلفات الهامة منها مثلا: «التآمر عبر الأردن: الملك عبدالله والحركة الصهيونية وتقسيم فلسطين»، و«سياسات التقسيم: الملك عبدالله والحركة الصهيونية وفلسطين 1951-1921»، و«الحرب والسلام في الشرق الأوسط: تاريخ دقيق»، و«الجدار الحديدي: إسرائيل والعالم العربي». يعيش شلايم في مدينة أكسفورد بصورة دائمة ويكتب في جريدة الغارديان اللندنية بصورة شبه منتظمة وهي جريدة عريقة تأسست عام 1821 وتعبر عن الطبقة الوسطى البريطانية وتصنف سياسيا كيسار الوسطcenter-left .

مقدمة شلايم للكتاب

الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني يعتبر من أصعب الصراعات السياسية منذ بدء الخليقة لكونه مرا وطويلا وعنيفا ويبدو كأنه لا يوجد مجال مطلقا للتسوية فيه بما يرضي الطرفين. هذا الكتاب يجمع معا كتاباتي السياسية في المسألة الفلسطينية خلال ربع القرن الأخير. وباستثناء مقال وحيد عن وعد بلفور لعام 1917، فإن المدى الزمني لمواضيع هذا الكتاب يمتد من حرب 1948 وتنتهي بالحرب الأخيرة (تعليق المترجم: بل الحالية) المتوحشة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة منذ ديسمبر 2008. وبين هذين التاريخين الميلانخوليين (الكئيبين)، تقع تقريبا جميع أحداث الصفحات القادمة.

ورغم أنني كتبت مقالات هذا الكتاب في فترات مختلفة فإنه يوجد شئ مشترك يربطها وهو تقديم شهادة لرأي بديل عن النظرة الحساسة إسرائيليا لتقييم الماضي. وهي مقالات تؤكد إعتقادي اليقيني بأن الماضي هو أفضل مرشد لفهم الحاضر وتوقع المستقبل. ويجب أن ندرك جميعا أنه فقط عندما نملك «فهما» جيدا للتاريخ المعقد والمتوحش لهذا الصراع، نستطيع أن نستوعبه وبالتالي نتمكن من حله. وبموازاة الصراع السياسي الإسرائيلي-الفلسطيني يوجد صراع مواز بين روايتين وطنيتين «مختلفتين» للأحداث. وفقط عندما نقرأ ونأخذ في حسابنا هاتين الروايتين «بحياد كامل»، نستطيع أن نكون صورة حقيقية عن خصوصية وديناميكية هذا الصراع الوجودي التراجيدي وإحتمالات حله.

أنتمي إلى مجموعة صغيرة من العلماء الذين يلقبون أحيانا «المؤرخون المراجعون الإسرائيليون» وأحيانا أخرى «المؤرخون الجدد». المجموعة الأصلية كانت تشمل بني موريس من «جامعة بن غوريون» والإن بابي من «جامعة حيفا».

لقبونا بالمؤرخين الجدد لأننا تحدينا الرواية الصهيونية السائدة عن أسباب ومسار الصراع العربي-الإسرائيلي. وبتحديد أكثر، لقد تحدينا الخرافات العديدة التي أحاطت بولادة إسرائيل والحرب العربية الإسرائيلية الأولى عام 1948. بني موريس كان هو من اخترع مصطلح. «التدوين التاريخي الجديد»، The New Historiography، ولكن بيني موريس، للأسف بعد الانتفاضة الثانية عام 2000، غير وعكس مساره الفكري ووجهة نظره بصورة راديكالية حول طبيعة هذا الصراع وانتكس عائدا للمربع الأول ليعتنق ويبشر من جديد بالرواية الصهيونية الرسمية السائدة بعد لجوء الفلسطينيين إلى العنف والهجمات الانتحارية حيث بدأ موريس يضع تقريبا كل اللوم بخصوص فشل التسوية السياسية على الفلسطينيين. ولكن إيلان بابي وأنا، من جهة أخرى، تمسكنا بقوة باعتقادنا أن إسرائيل تتحمل المسؤولية الكبرى حول استمرار وتصاعد العنف. الكثير من القضايا المختلفة سأناقشها في فصول هذا الكتاب والتي رتبتها بطريقة زمنية حسب كتابتها وليس حسب أهميتها.

ولهذا، قد يفيد القارئ أن يعرف في بداية هذه المرحلة أن معظم ما سيأتي يتعلق بثلاثة مسائل رئيسة. أولا: ولادة إسرائيل في مايو 1948. وثانيا: حرب الأيام الستة في يونيو 1967. وثالثا وأخيرا: اتفاقية أوسلو في سبتمبر 1993. كل واحدة من هذه المسائل هي موضوع نقاشات ساخنة ومشتعلة بين المفكرين وممثلي كل طرف..

النقاش الأول هو حول 1948. أعتقد شخصيا بيقين تام وبكل صراحة أن تكوين دولة إسرائيل تخلله ظلم كبير وفظيع للفلسطينيين ولكن، مع هذا، أنا أقبل تماما شرعية دولة إسرائيل ضمن حدود ما قبل حرب 1967!! خصومي يدعون أن هاتين الجملتين «متناقضتين» قائلين بأن دولة أقيمت على الظلم لا يمكن أن تكون شرعية!! ولكن، مع هذا، ردي هو التالي: كنتيجة لتكوين إسرائيل، تعرض الفلسطينيون للشتات ونزع ملكية أراضيهم. أكثر من حوالي 700 ألف فلسطيني وهو ما يعادل تقريبا نصف السكان العرب الأصليين داخل فلسطين أصبحوا لاجئين. كما تم «مسح» اسم فلسطين من الخريطة تماما ولذلك فإن هذه النتيجة لتكوين دولة إسرائيل خلقت ليس مجرد ظلم ولكن صدمة Trauma وطنية ضخمة وعميقة أو كارثة تم تسميتها «النكبة» بالعربية.


*كاتب ومترجم سعودي

مقيم في المغرب