عندما طُلب من ابن رئيس سابق أن يتحاور مع حركة شعبية كانت حاضنتها مدوّنة إلكترونية، لم يشأ للطلب أن يمر مرور الكرام. من فوق منصّته، التي ذابت الآن واحترقت، علّقَ باستخفاف واستدعى الحضور للضحك والقهقهة بصوت مجلجل. وقتَها كان يظن، ومعه حضوره الحزبي وآلته الإعلامية، أنّ العالم الافتراضي مجرد "كلام في النت" لا يقاس بالواقع الذي يتحكّم بمفاصل حركته السياسيّة والاقتصاديّة. كيف يتساوى من يتصدّر للمشهد الرسمي ويسيّره بطريقته الخاصة ويؤثّر فيه إلى مدى أبعد ؛ ابتداءً من الرأس إلى عموم القاعدة.. كيف يتساوى وعناصر القوّة تملأ قبضته خفضاً ورفعاً بمن لا يملك إلا روحه الحرّة وأصابعه التي تدقّ على "الكيبورد"؟
نستعيد شريط تلك الحادثة الموثّقة بقهقهتها اليوتيوبيّة، ومعها السيل الجارف الذي تدافع إلى حياتنا العربيّة من المحيط إلى الخليج. حالة السكون والاستكانة.. حالة التقبّل والامتثال.. حالة الإعراض واللامبالاة قبالة الشأن العام؛ أصابها جميعا مسّ السّحر والتحوّل عبر فضاء العالم الافتراضي الذي أُعيد فيه الصوغ والتشكيل لتلك الحالات في فعل تراكمي كان يسري من تحت الجسر ولا أحد من "الناس اللي فوق" كان يشعر به أو في الأقل لا يأبه له ما دام الأمر لا يتعدى "فضفضة نت".. فعل تراكمي كان ينضج على مهل ويختمر في بطء بانتظار اندلاع الشرارة من جسد محمد البوعزيزي، لتمتد الحرائق في الخارطة من أعلاها إلى أدناها معلنةً نشيد الحريّة والانعتاق.
إنّ قراءة الزلزال الحادث وتوابعه التي لا تفتأ شبكات التواصل الاجتماعية عن تزويدنا بمناطق اشتعالها على مدى أكثر من شهرين؛ تجعلنا نرفع الغطاء عن الرواسم "الكليشيهات" التي حُفظت عن الشباب العربي؛ شباب الوفرة والمتعة.. أو شباب الظل والحرمان، حيث جرى تأطيره في مقولات سلبية تأخذ عليه اللااكتراث بقضايا مجتمعاتهم إلى درجة الاغتراب عن هذه المجتمعات. كما تمّ تصنيفه نهائيا في قائمة التقبّل والرضا عن وضعه دون مبادرة للرفض أو التغيير. هي وصفة أو وصمة طبعت على جبين الشباب العربي باعتباره من الزوائد التي لا فائدة تُرجى منها. وربما في هذه المقولات السلبيّة راحة لمن يروّجها تخلّصه من عبء العمل والبحث عن مخارج تدمج هؤلاء الشباب في الكيان المجتمعي والسياسي؛ ليمارس عضويّته في هذا الكيان بشكل كامل غير منقوص ولا مهمّش.
لكن بالدم وبالحركة الحيّة، انهمر الشباب يتقدّمون المشهد، ويصنعون المفاجأة التي هي أكثر من حلم، وأكثر من عمرٍ دحره الشيب "من أجل هذه اللحظة التاريخية".