في صيف القاهرة سنة 2008 عقدت محاضرة مهمة ضمت ثلاث شخصيات بارزة على الساحة الفكرية والسياسية المصرية. الأول هو الدكتور عصام عبدالله أحد الرموز الفكرية للتيار الليبرالي المصري الذي كان يقدم في ذلك الوقت نقودات جذرية للنظام المصري السابق كما كان يمد الساحة السياسية والفكرية المصرية بمفاهيم الدولة الحديثة والمجتمع المدني والعدالة الاجتماعية. الثاني كان الدكتور حسن حنفي المفكر العربي المعروف والذي كان حضوره بمثابة حضور لتوجه قومي إسلامي محترم في الساحة المصرية. الشخصية الثالثة كان مصطفى الفقي عضو الحزب الوطني الحاكم سابقا وهو الشخصية التي كانت تحظى بحد أدنى من القبول لدى المعارضة المصرية. كانت المحاضرة تمثل ثلاثة توجهات كبيرة على الساحة المصرية. المعارضة الليبرالية، المعارضة القومية والإسلامية، والحزب الحاكم الذي كان يحكم البلد بقبضة من حديد في ذلك الوقت.

في تلك المحاضرة قدم د.عصام عبدالله تعريفا فلسفيا وسياسيا للدولة الحديثة التي يطالب بها واتضح لاحقا أن عددا كبيرا من الشباب يطالبون بها. حسن حنفي تحدث عن فشل حكومة مبارك على مدى عقود من الزمن في تحقيق الدور المصري محليا وعربيا وإسلاميا. الفقي قدم تصريحا سياسيا يمسك فيه بالعصا من الوسط مطالبا بإصلاحات معينة مع بقاء الأسس الحالية كما هي عليه. في نهاية المحاضرة قال الدكتور حنفي كلمة مهمة. قال: "مصر حُبلى" رد عليه الفقي "ربما يكون حَبَلا كاذبا أو مولودا مشوّها".

الحوار الأخير بين حنفي والفقي كان يعبّر بشكل واضح عن ما كان يجري على الساحة المصرية. حنفي وغيره كثير من المتابعين كانوا يشاهدون البلد يغلي. كل فئات المجتمع مستاءة من الأوضاع: الشباب، المثقفون، القضاة، أساتذة الجامعات. الكل كان مستاء مما يجري والحكومة من جهة أخرى والتي يمثل الفقي هنا أحسن ما فيها لا ترى هذا الغليان ولا تفهم ما يجري حقيقة على الأرض. فكما كان جمال مبارك يسخر من شباب الفيسبوك ويرفض حتى التعليق على وجودهم فإن الفقي قد سخر من حَبَل مصر ولم يعترف بوجوده.

الذي جرى بعد حدود سنتين أثبت أن عصام عبدالله وحسن حنفي وغيرهما من متابعي الشأن العام كانوا فعلا يقرؤون الواقع على حقيقته. نعلم اليوم أن مصر كانت فعلا حاملاً وأن في بطنها مولودا حقيقيا خرج للوجود في 25 يناير ليعلن عن ولادة جديدة لمصر وللشعب المصري. الفقي من جهة أخرى كان أحد الأصوات التي عملت حتى الرمق الأخير على تجنب هذه الولادة. كان الفقي يلعب دور الوسيط في الأيام الأولى من الثورة ويراهن على أن الرئيس لا يزال قادرا على إحداث تغييرات توفيقية تبقي على النظام وتحقق بعض مطالب المعارضة. لم يكن مدركا أن هذه المعادلة أصبحت مستحيلة الوجود بعد أن خرب النظام السابق كل علاقة طبيعية بينه وبين الناس.

النظام الاستبدادي هو نظام يصاب بالعمى بسرعة. أي أنه نظام يحجب نفسه عن الواقع من خلال سلسلة من الإجراءات التي تغلق المنافذ الطبيعية وتخلق مع الوقت عالما افتراضيا مغلقا يعيش فيه النظام ويموت فيه غائبا عن الوعي. يبدأ هذا العمى بتصنيف النظام، تصنيفا حادا، الناس إلى موالين ومعارضين. حسبة ذلك النظام حادة جدا، فالموالون لا بد أن يكونوا موالين جدا ويتخلون عن شوائب المعارضة. كما أن الجدار دون المعارضة عال جدا ويحجب كل تواصل معهم. في هذه الأجواء ينعزل النظام المستبد عن الوجود الحقيقي وينغمس في وجود زائف يتمثل في كذب الموالين الذين يصبح كذبهم هو جواز العبور للنظام والاقتيات عليه.

هنا يخرج النظام عن كونه ممثلا للشعب إلى كونه جسما مقابلا للشعب. يصبح آخراً عدوا للناس. وبدلا من أن يغيّر الشعبُ النظام بالانتخابات فإن النظام يغّير إرادة الشعب من خلال تزوير الانتخابات. النظام الاستبدادي يغيّر جوهر العلاقة الطبيعية بين الناس والمؤسسات. النظام الطبيعي يقول إن المؤسسات هي أجهزة لتحقيق إرادة الناس في إدارة شؤونهم العامة. النظام الاستبدادي يحوّل جوهريا المؤسسات إلى أجهزة دون الناس. أجهزة غريبة عنهم، لا يعرفونها، مغلقة وربما تناصبهم العداء وتكيد لهم المكائد. ولذا فإنه من الخطأ تصوّر أن الأنظمة الاستبدادية يمكن أن يطلق عليها دول أو حكومات بالمعنى الدقيق للمصطلحات. الأدق هو أن هناك طرفين متقابلين والعلاقة بينهما علاقة جبر وقسر وقوة. الأقوى هو صاحب السلطة. يمكن أن نلاحظ الآن ما يجري في ليبيا على أنه تعبير دقيق على وضع العلاقة: حرب بين الشعب من جهة وجماعة تدعي أنها الحكومة من جهة أخرى.

ولذا فإن التغيير الجوهري الذي تطالب به الجماهير في تونس ومصر وليبيا هو الخروج من معادلة التحارب والقسر والقوة الحالية. المطلوب هو حكومة شعبية بمعنى حكومة تمثل الشعب بدلا من أن تكون عدوّة للشعب. حكومة تقوم على خدمة الناس بدلا من حكومة تقوم على خدمة نفسها على حساب الناس. حكومة يغيّرها الشعب بدلا من حكومة تغيّر الشعب. حكومة تساعد على أن يتحرك المجتمع حركة طبيعية باتجاه التقدم والتطور بدلا من حكومة تتسبب في ولادة مواليد الغضب والاحتقان. مواليد تم حقنهم بفيروسات العداوة والانتقام.