رغم ضعف متابعاتي الآن لإيقاع الثقافة، في كل قنواتها ورغم توقفي عن الكتابة منذ سنوات وعن القراءة بالنّهم القديم الذي آل إلى ما يشبه السقم عن الطعام، إلا أنني بين حين وآخر أستنتج في تجليات نادرة، وبوادر جديدة لعشق قديم، أن ضجيج الحداثة وما بعدها آخذ في الخفوت فلا نكاد نسمع إلا همساً. خشعت الأصوات باستثناء اجترارات واهنة بائسة في بيداء "لا صدى يوصل، ولا..."

كنت شغوفاً بالتجديد في التعبير، والتجدد في الرؤية، في بدايات مرحلة اتخذت من الطوباوية مركباً، ووضعت أصابعها في آذانها حذر سماع الأصوات الأخرى، بدايات مرحلة خالطت إفرازاتها ماءها النقي، ولبس فيها الكثيرون ثياب الشتاء في ذروة الصيف، وثياب الصيف في عز البرد.

مرحلة، لكي تعبر عن واقعنا الإبداعي القولي، حشدت كل مصطلحات الدنيا في مجالي الفن والنقد، وتحولت في أكثر طروحاتها إلى طلاسم وجداول وخرائط، أشبه ما تكون بأوراق السحرة، وبعضها كان يذكرنا بأساليب المناطقة، وعلماء الكلام المعمى، أيام كانت تلك الأساليب، تتطلب لانغلاق مقاصدها عشرات التعليقات، والشروح تبث بعض الحياة في تلك المتون الموات، وانخرط شباب تلك المرحلة، من الكتاب والشعراء في الركض وراء تنظيراتها المفتقرة إلى التطبيق ليملؤوا الساحة بغبار الشعر باستثناء قامات موهوبة، ما زلنا نعيد قراءتها كلما غمرنا القتام. أجل، كنت شغوفاً بالتجديد في طرائق التعبير، والتجدد في رؤية الواقع والعالم بكل تحولاته وتشابكاته واستداراته، من دون الإفراط في ترديد أصداء ما سكنت أصواته في أرجاء أخرى في العالم، لها منطلقاتها الخاصة، ونهضتها المؤسسة على فكر عقلاني تجريبي أعاد صياغة مفهوم المعرفة.

فإذا كانت "الحداثة" بمفهومها الغربي، تمثل قطيعة مع الماضي، كما قرأنا وأن "ما بعد الحداثة" يمثل تحولاً لا يتقاطع مع الماضي من كل وجوهه فإن التجديد والتجدد يتعالقان مع الزمن بكل أبعاده وصيروراته، لا ينامان في أحضان الماضي ولا ينخدعان بكل وعود المستقبل من دون العمل من أجله.

ومع ذلك فإن الأدب هو كل هذه الأشياء، قول على قول، ابتكار واجترار، تأسيس، وسطو. عمق وضحالة، ففي كل مرحلة تتداخل الأجيال، وتختلط الأوراق وتتشابه البقـر، ومن نافلة القول إن حالة الإبداع لا تعرف الثبات، ولا تخلد إلى السكون، على قلق دائم، ونزوع مستمر للتواصل بين الذات والعالم، وهو نزوع زاد من تأثر تسارعه في زمن تتعدد وسائل الاتصال، والتواصل السريع المتسع.

لكن الأدب يبقى حالة خاصة تعكس رؤية وثقافة صاحبه ورصيده اللغوي، بصرف النظر عن طبيعة الأفكار والتجارب التي يتحدث عنها. والقارئ العربي بعد تلك الطفرات القولية التي ذهب كثير منها مع الريح مخلفاً أصداء ما لبثت أن هدأت، في حاجة ماسة الآن إلى عودة الكتابة الحرة التي لا تنطلق من أوهام فكرية، الكتابة الصادرة من القلب كما تصدر كلمات الطفل الذي ما زال يحسن الظن بأبويه وبالعالم من حوله. ويبكي ويحزن سعيداً بحزنه وبكائه في الأحضان التي يشعر أنها تهتم به حقيقة، القارئ فعلاً محتاج لأن يقرأ من دون وصاية ولا حذلقات وغمغمات لا تقدم ولا تؤخر في سيرورة الحياة.

بين يدي كتاب للكاتب: عبدالله السقاف الذي كاد يغيب عن مضمار الكتابة، واعتقدنا أنه قد علق بين مد الحياة وجزرها، أو أنه قد فضل أن يعيش الحياة بدلاً أن يكتب عنها، فإذا به يطل علينا (بجنون المقاطع، من خارج الدوائر)، ولو زعمت لنفسي فهم الجملة الأولى من العنوان، "جنون المقاطع، فإنني لا أدعي فهم جملته الثانية.. من خارج الدوائر بالقدر المزعوم نفسه. فالجنون ذاته وإن كان هنا مجازياً – جدلا- لا يمكنه أن يكون داخل الدوائر المألوفة، رغم أن الدوائر في هذا العنوان جاءت مطلقة في كل إضافة، أو إسناد كما لو كنا نعرف سلفاً المعنى الذي تحيل إليه، أو في أقل تقدير يبقى المعنى في قلب الكاتب نفسه، وفي جعبة الاحتمالات.

لم يكن العنوان وحده مثيراً للتأمل- مهما كان قصد الكاتب- فهناك أيضاً عتبات أخرى تحرك مزيداً من الأسئلة: الغلاف الأمامي بلونيه، الأسود والأزرق.. وأطرافه صورة الشخص الذي أحسبه الكاتب نفسه وقد توهج نصف وجهه بلون الشفق، والنصف الآخر بالأزرق الغامق المتكسر، في الوقت الذي بدت فيه الملامح أقل شباباً من السواد الفاحم للشنب والرأس، كأن الصورة في مجملها وبمفارقاتها العمرية والآنية (حضورها في الغلاف) نص من الماضي – يتضمن رسالة تذكارية لمتلقٍ خاص، وهو احتمال تدعمه عبارة "قبل وبعد الرحيل" تحت اسم الكاتب، في الورقة الثانية من الكتاب. ثم الآية الكريمة : "فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض" . ولعل الكاتب كان في غمرة الانفعال في توجيه رسالته الخاصة تلميحاً، وقد سجل اسمه مرة أخرى تحت نص الآية، وتحت الاسم اللازمة ذاتها : "قبل وبعد الرحيل" في الصفحة الخامسة. أما في الصفحة التاسعة، فنحن أمام واحدة من أهم العتبات لحيدر محمود، شاعر أردني، ووزير سابق للثقافة في صفحة ونصف تقريباً قادنا إلى أهم المداخل إلى الكتاب، ومع سيره العميق إلا أنه لم يقم عنا بقراءة الكتاب مؤكداً في آخر حديثه المكثف الموجز: "ليس هذا تقديماً للمقاطع" بقدر ما هو محاولة للاستفزاز في الدخول إليها بنبض متوتر، واستعداد كامل للعراك، ولا أدري لماذا تنبأ حيدر محمود بالعراك. جاء الإهداء إلى ولديِّ الكاتب، فيصل وسلطان بمثابة اليقين فيما ذهبت إليه "فهذه" المقاطع لكما، ومن خلالكما .. فاحتفظا بها، فهي "أنا" بعد الرحيل الأخير!!

قبل المقطع الأول، من المقاطع السبعة، جعلنا الكاتب، أمام مدخله الخاص الذي بدأ وكأنه تفسير وتبرير، واعتذار... "فهذه (المقاطع) بمثابة رأي شخصي، لمعاناته وتجاربه،، وعذاباته الخاصة، ولا يقصد بها الإساءة أو التدخل في حياة الآخرين..." .

في المقطع الأول (ص:15- 18) يردد السقاف شكواه من سوانح الدهر، أي: دهره هو، ويقصد هنا بسوانح الدهر، عواديه في نماذج عديدة، المرأة، غابات الأسمنت، الغدر والخيانة، وهوان الأحرار، وعز الوضعاء، نماذج لعلها شكلت حفراً ونتوءات في الطريق. وبدت المرأة في هذا "المقطع" في نموذج قاس ومقزز، تذكرنا بصورة "مـي" في وصف ذي الرِّمة حينما غضب منها، "على وجه ميٍّ مسحة من ملاحة – وتحت الثياب – العِرَّ لو كان باديا". ومن المعروف أنه كان يبالغ في مدحها قبل تلك الغضبة غير المضرية. إن وراء مواقف الشعراء في كثير من الأحيان حالات انفعالية شبيهة بحالات الإبداع نفسها، عبرت عن نفسها في الحال، أو كَمُنَتْ في اللاوعي حتى يحركها باعث ما.

وليس من السر أن يقال: "رائحة الشوق تختلف عن رائحة الطرفين، بعد انقضاء الوطر، فالمرأة طرف في المعادلة، إلا إذا كانت من العابرات... بعض لوحات هذا المقطع يتغنى السقاف – في عفوية واضحة بجمال امرأة تبدو صغيرة السن" كاعبة إن خطت..." . والغزل شعراً كان أم نثراً يكون عادةً من خارج دائرة المتغزل المألوفة . والمرأة البعيدة القصية تبدو قمراً، وتبدو القريبة حجراً كان الله في عونها. وليس اعتباطاً أن تكون لوحات هذا المقطع الأخيرة تختم بنداءات افتراضية لامرأة يريدها كما يريد"... دعيني أرسمك – بنفسجاً- وأقحوانا- وقطرات ندى، لصباح دافئ الحضن والأعطاف، حاني القبلات" و"هل تظنين أنك ستبعثين الحياة من جديد؟ الشك يملأ نفسي .. وفي فمي ماء."

في معظم المقاطع يؤكد الكاتب ما قاله في أولها، عن المرأة "الأصدقاء، الليل، القطط الضائعة، الوحدة، العزلة، في أسلوب سهل جذاب تتخلله مفردات "الرومانسيين" في غير توغل في الانكفاء الذاتي، من غير بحث عن بدائل في الطبيعة، بل عودة إلى ماضٍ خاص، يكاد يكون معياراً يزن به تحولات هذا الزمن (زمن تجارب وأفكار الكاتب) حتى مدحه وهجائه للمرأة ينبع أو هكذا بدا لي الأمر من مشاعر مثالية تتحكم فيها اللحظة، ولكنها لا تخلف ندوباً و لا ترشح بغضاً، ولست أدري ما مدى صحة الشعور الذي سيطر عليّ وأنا أقرأ مقاطع السقاف، والإحساس بعذرية العواطف عنده، بمعنى أنه يصف الأشياء كما تبدو له في لحظات عابرة، من دون أن يسمح للتأمل في تفاصيلها أن يفسد عليه لذة الانفعال، ضداً أو معاً. وتروق له حالة التعبير أحياناً حتى يلامس أول تخوم الشعر، بل أحسب أن في داخله شيئاً من الشاعر لم يعره كبير اهتمام، فيترك ذلك الشيء يحاول البروز على سجاياه فتومض منه حالات مثيرة للتأمل.

وتكاد المقاطع تكون للمرأة وعنها، وضدها، ولكن من غير منطلقات فكرية تجعل من الأمر قضايا شائكة، بل يكاد يكون خطاباً شاعرياً لا يلبث أن يتغير من صيغة إلى أخرى، كما لو كانت المسألة كلها تتلخص في "تموجات نهرٍٍ صاف تحركها تقلبات الرياح" لعلنا في حاجة لعودة هذا النوع من الكتابة الرفيقة الصافية بعد أن سئمنا الإفراط في التعامل مع النصوص، وكأنها " تنزيل من التنزيل" ومن اعتصار النصوص بحثاً عما لا يوجد أصلاً، وكأن الإبداع مهما كانت درجته سيعيد للعروبة ما لم تعمل من أجله، أصلاً. والتحولات لا يصنعها الشعر .

أعرف أنني لم أكمل قراءتي لـ"المقاطع" كما ينبغي، وعذري أنني لا أملك الآن مساحة أوسع، من الوقت ووسيلة النشر المحدودة سلفاً، فالكتاب في مجمله رؤية صاحبه، وأسلوب تعبيره عنها، لكنه في تفاصيله لا يزال محرضاً على القراءة، واستقطاب ما ينطوي عليه من دلالات، وعلاقات، وإيحاءات.

* أديب وناقد سعودي