بصراحة شديدة وبدون تحفظ أو مواربة، هناك من يُريد أن يُعيد عقارب الساعة إلى الخلف، ويُعيدنا إلى المربعات الأولى، تلك المربعات البائسة التي عشعش فيها الجهل والتخلف والتزمت والترصد والتوجس لعقود طويلة جداً. فهل يُعقل، بعد تلك المكاسب والاستحقاقات التي تحقق بعضها نتيجة تضحيات جسيمة ومعاناة مريرة قامت بها طلائع التنوير التي تشكلت من العديد من شرائح وفئات المجتمع السعودي ضد التشدد، وقُدمت على إثرها الكثير من التنازلات والتضحيات، هل يُعقل بعد كل تلك المسيرة الطويلة والشاقة التي قطعها المجتمع السعودي باتجاه التحضر والتمدن والتطور والتحرر أن يحاول البعض سرقة كل تلك المكاسب والحقوق عنوة وبشكل مهين وسافر.
ما حدث في معرض الكتاب الدولي بالرياض من تدخلات سافرة ومشاجرات مفتعلة من قبل "المحتسبين" بحاجة إلى وقفة حازمة وفعل رادع وعقاب، لأن التداعيات لكل تلك الأحداث والمواقف المؤسفة التي حدثت وتحدث في أيام المعرض تلقى أصداء في كل العالم، فمعرض الكتاب دولي وليس مجرد حدث محلي محدود كما كان قبل عدة سنوات، فهو الآن يعد الأبرز عربياً.
أظن أن بعض المواقف والأحداث والسلوكيات التي تحدث بين جنبات وأروقة المعرض ستزول قريباً، لأن الزمن كفيل بذلك، إضافة إلى تنامي حالة الحراك المجتمعي التي ساهمت في هذا التطور الثقافي والعلمي والديني والانفتاح على الآخر ونضج التجربة وتجذر الوعي المجتمعي بأهمية الكتاب كأحد المصادر المهمة في الثقافة، والكثير من المؤثرات الإيجابية التي تشكلت بعض معالمها فبدت كما لو أنها في طريقها للتوطين والاستقرار في ثقافتنا الوطنية ومزاجنا العام، كنت أظن ذلك، وكتبت كثيراً مبشراً بذلك، ولكن يبدو أن الأمر لم يكن بهذه النظرة الوردية التي كنت أحملها، سواء أنا أو غيري من الكتاب والمثقفين. وكم هو محزن ومحبط، أن لا تستطيع المرحلة أن تُرسخ بعض الثقافات أو تُفرز بعض المراجعات، بل على العكس تماماً، فمازال البعض يُصر على ممارسة دور الوصاية والإرشاد والتوجيه لكل الذين لا يملكون من أمرهم شيئا.. هذا الدور مازال حاضراً بقوة في جل مجتمعاتنا العربية.
يُعتبر معرض الكتاب الدولي الآن الواجهة الحضارية الأبرز التي يطل بها هذا الوطن الرائع على العالم، هذا الوطن الذي اختزل ظلماً في مفردتي النفط والصحراء في ذهنية الكثير من الأوساط العربية والأجنبية. لقد منحت هذه التظاهرة الثقافية الكبرى الفرصة لكل المثقفين والمبدعين من أبناء هذا الوطن الرائع لإبراز الوجه الآخر المشرق بكل التقاسيم الثقافية والأدبية والفنية والإنسانية والحضارية، كما أظهرت ـ هذه التظاهرة الثقافية ـ مدى ما يتمتع به المواطن العادي من وعي وثقافة وقدرة على الفرز والتمييز وتقبل الآراء والأفكار والثقافات التي تعرضها أكثر من 700 دار نشر من 30 دولة وبما يُقارب 300 ألف عنوان وبعدد من اللغات.
إن ما يحدث في هذا المعرض الذي يصنف على أنه الحدث الأهم في الروزنامة الثقافية الوطنية ومنافساً قديرا لمهرجان الجنادرية ذائع الصيت، يشوه الصورة الجميلة التي يُمثلها هذا التجمع الثقافي الكبير. إن هؤلاء "المحتسبين" الفوضويين لا يعكسون بأي شكل من الأشكال حقيقة الواقع الحضاري والإنساني والثقافي الذي عُرف به المجتمع السعودي. لقد تمادى هؤلاء بدرجة كبيرة جداً، حتى وصل بهم الأمر إلى إثارة الرعب والخوف في نفوس زوار المعرض، خاصة النساء والشباب، بل وحتى الناشرين الذين يُعتبرون ضيوفاً أعزاء على الدولة ممثلة في وزارة الثقافة والإعلام. هؤلاء الغوغائيون يحاولون فرض وصايتهم ومزاجهم على بعض الزائرين الذين يتصفحون أو يشترون بعض الكتب التي تروج للكفر أو المجون كما يزعمون. حتى وسائل الإعلام المحلية والعربية والأجنبية التي تواجدت في المعرض لتغطية نشاطاته وفعالياته لم تسلم من مضايقاتهم واحتجاجاتهم، متذرعين إما بالاختلاط أو التبرج. لقد فرض هؤلاء المتشددون تصرفاتهم الهمجية وسلوكياتهم المشينة على أجندة المعرض ومنذ عدة سنوات، الأمر الذي يستوجب تدخلاً سريعاً وحازماً من قبل الأجهزة والمؤسسات الرسمية لصدهم وإيقافهم عند حدهم، لأن هذه الجماعات الغوغائية تجعلنا محل تندر وسخرية الآخرين. نحن في دولة النظام والقانون، ولا مكان لهؤلاء "البلطجية" الذين يعبثون بسمعة الوطن.
لماذا كل هذا الخوف من الكتاب؟. نعم، قد يكون الكتاب في ذهن البعض مازال سلعة خطيرة، ولكن هؤلاء الغوغاء أكثر خطورة من كل تلك العناوين الفكرية والثقافية والعقدية.