جدل فكري وفقهي في الساحة الداخلية السعودية، أثاره الشيخ عادل بن سالم الكلباني، بعيد البيان الأخير الذي أصدره، على خلفية تحليله لـ"الغناء والمعازف"، وهي الفتوى التي حركت الوسط الشرعي في المملكة، خالقا حالة من عدم "التوافق" بين فرقاء المدرسة الواحدة، ليس في الداخل وحسب، بل حتى في محيط الجوار، حيث رد على فتواه عدد من رجال الدين الخليجيين، الذين خالفوه الرأي.
فيما كل فريق يسوق الأدلة الشرعية المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية، ليدعم وجهة نظره لينفتح باب واسع كان مغلقاً قبل ذلك لإكتسابه صفة الجزم بالتحريم وإن كانت بعض الطرقات قد مست هذا الباب متسلحة بما يسمى "الإنشاد الإسلامي" الذي يتكيْ، أحياناً، على الدف والطبل طلباً لمزيد من التأثير والجاذبية.
الكلباني ليس الأول!
الكلباني لم يكن بدعا بين العلماء في إجازة الاستماع إلى "الغناء والموسيقى"، إلا انه الأول في السعودية خصوصاً أن الكلباني كان في الثمانينات من فرسان الصحوة المتسمين بالحدة مما جعل فتواه بالإباحة صادمة لكثير من متابعيه الذين فوجئوا بهذا "التحول" حسب تصورهم، وقد ناله نصيب وافر من النقد، خصوصا على المواقع الإلكترونية، ومنتديات الحوار، على الشبكة العنكبوتية، حيث اعتبرت هذه المواقع أن "رأيه لم يقل به أحد من أهل العلم، لأنه تجاوز آراء المعتبرين الذين لهم رأي في جواز بعض أنواع ما يسمى بالغناء الجاد، الذي لا وجود فيه للتغنج والمعاني الفاسدة، والتشبه الممنوع"، وأن "الكلباني يجهل في إباحته للغناء، أصول الفقه وطرق الاستدلال الشرعي"، بحسب ما جاء في بعض تلك المواقع الإلكترونية.
عربياً أجازه من قبله عدد من الفقهاء، أمثال الدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور العراقي عبد الله الجديع، والأخير صنف كتابا في هذا الصدد ووجه بحملة شديدة، من قبل قطاع من الوسط الفقهي المحلي، والذي اعتبر أن بحث الجديع، شابه "انحراف تأصيلي في منهجه".
من جهتها، حاولت "الوطن" الاتصال بالشيخ الكلباني، لأكثر من مرة، للوقوف على حيثيات ما أفاد به، إلا أنه لم يتسنَ لنا ذلك. وتشير معلومات متوافرة، من أن "مجموعات من طلبة العلم الشرعي، يجهزون ورقة علمية، للرد على ما استدل به الشيخ الكلباني".
النجدي يرد
الدكتور محمد الحمود النجدي، أحد وجوه التيار السلفي البارزة في الكويت، استنكر على الكلباني رأيه الفقهي، وقدم ورقة نقدية "شرعية"، حملت عنوان (وقفات مع كلام الكلباني)، وذلك في موقعه الرسمي "الأثري .نت"، جاء فيها "كيف يذهب الشيخ إلى ذلك، وأئمة المسلمين المشهورين، ومنهم أئمة بلاد الحرمين وعلماؤهم على القول بتحريم المعازف والغناء، بل والكلباني كان منهم إذ يقول: قرأت أقوال المحرمين قبل وبعد، وكنت أقول به، ولي فيه خطبة معروفة، ورجعت عن القول بالتحريم، لما تبين لي أن المعتمد كان على محفوظات تبين فيما بعد ضعفها! بل بعضها موضوع ومنكر".
ويرى النجدي أنه قد "دلت النصوص المنقولة عن الأئمة الأربعة وأتباعهم، بتحريم الغناء والموسيقى".
وفي رسالة صريحة يدعو الدكتور النجدي عوام الناس إلى عدم "الالتفات لرأي الكلباني في الغناء"، معتبرا أنه "من الأقوال الشاذة المخالفة لنصوص الكتاب العزيز والسنة النبوية"، مشيراً إلى "أن الواجب الالتفاف حول فتاوى الأئمة الكبار، المشهورين بالعدالة، والذين حازوا ثقة المسلمين، وسارت بفتاواهم الركبان، والتفت حولهم مجامع الناس في الحاضر والبادي".
تنوع فقهي
ويتقاطع رأي النجدي، مع التصريحات التي أطلقها عضو "هيئة كبار العلماء" في السعودية، الشيخ صالح اللحيدان، حينما قال "على الشيخ عادل الكلباني أن يبقى في مسجده يؤم المصلين ويقرأ القرآن، ولا دخل له في مسائل الفتوى". هذا فضلا عن آراء أخرى لدعاة ومشايخ سعوديين انتقدوا فتوى الكلباني، من ضمنهم الشيخ عبد الرحمن السديس، والقاضي بالمحكمة الإدارية بالمدينة المنورة الشيخ سلطان بن عثمان البصري، والأستاذ بجامعة "أم القرى" الدكتور محمد السعيدي.
الباحث والكاتب في الشؤون الإسلامية، عبد الله فراج الشريف، رفض في تعليق لـ"الوطن"، الاتهامات التي يدعيها البعض من أن الكلباني عارض فتاوى تحرم الغناء، لـ"هيئة كبار العلماء"، وهي المؤسسة الدينية الرسمية، والمرجعية الشرعية، وما اعتبره البعض من أن ذلك "يشوش على عامة الناس"! حيث يرى الشريف أن "ليس هناك مرجعية ودين رسمي"، مضيفاً "لن يكون رأي الكلباني مدعاة للفتنة بين عامة الناس، وهو من الحراك الشرعي والتنوع الفقهي المستند على الأدلة، وهو الأصل في العلم الشرعي". وأشار الشريف إلى أنه "لا يجوز التشنيع بمن أسرد رأياً مخالفاً، في أية قضية فقهية"، معتبرا أن الرد يكون بالحجة والدليل، لا بحملات التشويه والتنكيل.
أسانيد ضعيفة
الدكتور عبد الله الجديع، والذي يعمل حالياً في "مجلس الإفتاء الأوروبي"، بالعاصمة البريطانية لندن، أشار في معرض حديثه لـ"الوطن" حول موضوع "تحريم الغناء"، إلى أن "دلائل التحريم التي تساق في بعض المسائل (وضمنها الغناء)، هي منهجية تقليدية، تبقينا دائماً في إطار التشدد في الأحكام، وفي ظل الاستناد على أحاديث ذات أسانيد ضعيفة"، إلا أن الجديع استدرك بالقول "هناك بحبوحة شرعية في مسألة الغناء، في إطار الأحكام الشرعية، نستطيع من خلالها ضبط المسألة بعدد من الضوابط الشرعية، وليس معنى ذلك هو تطويع للأدلة الشرعية".
وفي انتقاد مبطن للدكتور الجديع، لمنهجية بعض العلماء في تحريمهم الغناء، استنادا على القاعدة الفقهية "سد الذرائع"، بحجة الحفاظ على الكيان المجتمعي، قال الجديع "إن هذه القاعدة مختلف عليها بين الأصول الفقهية، وإن الأحكام الشرعية التي بنيت على قاعدة سد الذرائع محدودة جداً".
كتاب الغناء والموسيقى
كتاب "الغناء والموسيقى"، الذي ألفه الجديع، وأثار ردود فعل مختلفة حينها، قال عنه مؤلفه "استوعبت في الكتاب بحث هذه المسألة في إطار أدلتها الشرعية، مناقشاً الخلاف فيها بتحليل وتفصيل، خلصت منه إلى أن حكم الغناء والموسيقى ليس قضية إجماعية، لا يجوز الخلاف فيها، بل أثبت فيها وجود الخلاف، وذلك في القضيتين (الموسيقى والغناء) مجتمعين ومنفصلين، ولا نص في القرآن تكلم عنهما، كما لا يوجد نص ثابت في السنة قاطع بمنعهما، وليس في المذاهب المنقولة عن الصحابة والتابعين ما هو صريح عنهم في تحريم الموسيقى أو الغناء، بل جاء عن بعضهم استعمال ذلك والإذن فيه دون نكير"، مشيراً إلى أن "نسبة القول بالتحريم إلى المذاهب الفقهية قولاً واحداً ليس دقيقاً. وبينت أن مرجع هاتين القضيتين إلى باب العادات، والتي تقرر شرعاً أن الأصل فيها الإباحة، لا يصرف عنها إلا بدليل".
ويسرد الجديع في حديثه عن كتابه مضيفا "بتفصيل بينت أن كل ما تعلق به المتعلقون من الأحاديث الصريحة في تحريم غناء أو موسيقى، والتي شحنت بها كثير من الكتب التي تعرضت لهذا الموضوع، لا يثبت منه شيء حسب ما تقتضيه قوانين علوم الحديث. وبينت أن وصف الغناء الباقي في إطار الإباحة ما كان بكل كلام مباح في نفسه، ليس بالفاحش ولا البذيء ولا ما تضمن دعوة أو تحسيناً لمعصية.
الأمر الذي أحسب أن غناء الناس اليوم أكثره من باب هذا المباح في مفرداته، وجدير بالملاحظة أن الغناء العاطفي بالحب والغزل النظيف ليس منكراً من القول وزوراً، بل ملائم للطبع الإنساني. على أن خروج الناس في المباح عن قدر الإباحة موجود في كل مباح، لكن لا يغير حكم الإباحة سوء استعماله، إنما يُنكَر سوء الاستعمال"..وتفصيل ذلك كما رغبتم لا يتهيأ في هذا المقام بأكثر مما ذكرت، لذا لا غنى عن الإحالة على كتابي في ذلك.
فتاوى لـ"كبار العلماء" تحرم الغناء عدد من الفتاوى الدينية لعلماء كبار من السعودية، ترى جميعها تحريم الغناء والمعازف، ومنها فتوى للراحل الشيخ عبد العزيز بن باز، حيث توجه إليه بالسؤال حول "الاستماع للأغاني العاطفية"، على لسان فتاة تقول "أقوم بالواجبات الدينية من الصلاة والصوم وقراءة القرآن بكل إخلاص، ومع ذلك أستمع للأغاني العاطفية، والخالية من ذكر الخمر وما شابه ذلك من المحرمات، هل يصح ذلك أفيدونا أفادكم الله"؟ وكان جواب الشيخ ابن باز، كالتالي "ننصحك بألا تسمعي الأغاني مطلقا، لأنها شر، ولأنها تفضي إلى فساد كبير في القلوب. وننصحك بسماع إذاعة القرآن، فإن فيها الخير الكثير، وسماع برنامج نور على الدرب، وسماع الأحاديث النافعة المفيدة. أما سماع الأغاني فاتركيها واحذريها، لأن شرها كبير. وقد قال الله سبحانه {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}. قال أكثر أهل العلم إن لهو الحديث هو الغناء. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل.) وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، هو من أصحاب الرسول، صلى الله عليه وسلم، ومن علمائهم، رضي الله عنهم أجمعين.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والمعازف). فأخبر أنه يكون في آخر الزمان قوم يستحلون المعازف وهي الملاهي والأغاني.
فنسأل الله أن يحمينا وإياكم وجميع المسلمين من شرها، وأن يثبت الجميع على الهدى إنه سميع قريب".
أما الفتوى الثانية فهي للعضو السابق بـ"هيئة كبار العلماء" الراحل، الشيخ عبد الله الجبرين، عندما أجاب على سؤال وجه له حول "حكم الغناء والاستماع له"، قائلا "الغناء هو التلحين بالأشعار، والتطريب بإلقائها، سيما إذا اشتملت على الحب، والغرام، ووصف الخدود والقدود، فمثل هذا محرم؛ لأنه يدفع إلى فعل الفواحش، واقتراف المُحرمات. وفي الحديث: إن الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء الزرع. فلا يجوز إنشاده على تلك الصفة، ولا يجوز الاستماع إليه، لأنه فتنة. والله أعلم".