منذ القدم تعرف الإنسان على أهمية العدالة في المجتمعات، كما أدرك ضرورة صياغة القوانين من أجل تفعيل هذه العدالة من خلال تسوية الخلافات بين الأفراد، ونحن كمجتمع إسلامي أعطينا دستورا ربانيا يحمل بين جنباته العدل والمساواة للجميع، ولكن للأسف نقرأ بين الحين والآخر تفسيرات أو رؤى فردية شخصية لبعض القضاة تجعلنا نتساءل حقا من أي كتاب خرجوا إلينا ببعض الأحكام! وخاصة في جنح مثل السرقة التي يكون الفقر أو الحاجة محركاً لها.
هل قرأتم رواية البؤساء لفيكتور هيوجو؟ بسبب حكم جائر وظالم قضى جان فالجان تسعة عشر عاما في السجن، ولماذا؟ لأنه سرق رغيف خبز يطعم به أبناء شقيقته، خمسة منها لكسر زجاج المحل والسرقة وأربعة عشر لمحاولاته الفرار من السجن. لنركز هنا على الحكم الأساسي الذي كان في ذاك الزمن، أي القرن التاسع عشر في فرنسا، السجن خمس سنوات، تقلصت مع تغيرات الزمن والقوانين هناك حتى أصبح اليوم لا يسجن في فرنسا من يسرق رغيف خبز لأنه جائع وليس لديه ثمنه، بل إننا نسمع في دول أخرى هنالك من يطلب من السارق رد ما سرقه مثل سترة أو بنطال أو دفع ثمنه. لنعد لجان فالجان ونرى كيف أن المطران اشترى روحه بالفضيات التي سرقها منه، بعد أن كان قد أدخله لقضاء الليلة، وهو البائس الخارج توا من السجن، وكل ما طلبه منه حين أنقذه من رجال الدرك حين أتوا به مع المسروقات للتأكد من أنها ليست له، أن همس في أذنه: "لا تنس وعدك بأن تستخدم هذه الأموال في أن تصبح رجلا أمينا وصادقا، لم تعد يا أخي تنتمي إلى الشر بل إلى الطيبة، لقد سحبتك من أفكار الشر وأعماق الجحيم، اشتريت منك روحك وأعطيها بدوري للرب"... ولكنه أصلا لم يكن قد وعده بشيء، لأنه سرقها وتسلل من المنزل في الظلام. ومن هذه الحادثة تولدت لديه صحوة الضمير، وصحوة الضمير يا سادة هي تاج الروح.
كم ضمير قتلنا، وكم نخسر يوميا مع هكذا أحكام يخرج إلينا بها كل حين وحين بعض القضاة. أليس الأجدر أن يراعي بعض القضاة في بعض الحالات البعد الإنساني؟
بشكل عام إن القسوة في مجتمعنا على الفقراء والتهاون مع غيرهم يعد خيانة للإنسانية قبل كل شيء. وأنا أسجل اسمي بأول القائمة، بدءاً من مساومة بائعة الطرح التي قد تكون تعول أيتاما أو بائع الخضار المتجول تحت الشمس الحارقة، وانتهاءً بدفع فاتورة مطعم خمسة نجوم نشك في صحتها ولكننا نخجل من مراجعتها أمام الجميع لزوم "البرستيج". إن سرق الفقير نصرخ "حرامي"، وإن سرق الغني نواجهه على انفراد، هذا إن لم نتغاض عن الأمر برمته خوفا على سمعته وسمعة عائلته المصونة. وللمعلومية إن الجميع، وأقصد هنا الجميع معرض أن يرتكب في سياق حياته نوعا ما من المخالفات قد تصل حد الجريمة، من أبسطها إلى أكثرها تعقيدا، كالسماح للنفس باستخدام الواسطة وحرمان آخرين من ترقية أو وظيفة أو كرسي في مدرسة أو جامعة أو سرير في مشفى أو حتى مقعد على طائرة، إلى التعدي على الأراضي وممتلكات الغير، ولكن من الذي عادة يقع ويعاقب؟
قد يكون الفقر "أم" الجريمة ولكن موت الضمير هو "أبوها"، والفقر لا يقوم على إصلاح نفسه بنفسه، بل يحتاج إلى عمليات جراحية تستأصله من جذوره، أما الضمير فنحن بإذن الله سنكون قادرين على تحريكه إن تعاونا على إعادة الطاقات الإيجابية إليه من خلال التلاحم وشراء الأرواح بمواقف نبيلة، ومن خلال عدم التعدي على إنسانية إخواننا من البشر.
واليوم قبل الأمس نحن بحاجة إلى تحركات فورية جذرية وهامة كي نعيد الثقة بأنفسنا حتى نصبح قادرين على حماية مجتمعاتنا التي عُرف عنها احتواء الغريب قبل القريب، عرف عنها التماسك والإيمان والولاء، مجتمعات على تنوعها الجغرافي والثقافي بنيت على الإيمان والرحمة والتعاون والعدل، مجتمعات كونت بنية وطن، ورقي أمة، وكل ذلك لن يكون سهلا إن تم خارج إطار جهاز قضائي يعمل على صياغة وتفعيل أنظمة موحدة وواضحة، منبثقة من دستورنا الرباني، آخذين في الحسبان متغيرات واحتياجات العصر. هل خلقت من الحبة قبة؟ لا أعتقد. إنني فقط ألقي الضوء على خطر حبة في قبة!