الرادار يمسح الجو فيعرف ما يسبح فيه من طير وطيارة، والعقل يمسح الجو الثقافي عبر العصر فيعرف خوالج الفكر واتجاهات التفكير والمدارس المعرفية، وهذا يذكرني بتجربة رائد من رواد الفكر مسح عصره وخلص إلى نتائج ذات بال، إنه أبو حامد الغزالي.

إن درس التاريخ أكثر من رائع وينفعنا فيه قانون الغزالي عن المسح الراداري للعصر، ففي القرن الخامس الهجري، الموافق للقرن الحادي عشر الميلادي، كان العالم الإسلامي ينهار، واكتمل الانهيار في منتصف القرن الثاني عشر بقرني الخلافة: في الغرب اشبيلية عام 1248م بالمنجل الصليبي، وفي الشرق بغداد تجرف بالحصادة المغولية بعدها بعشر سنين عام 1258م.

وفي هذا الوقت العصيب ولد الغزالي (450 – 505 هـ ) فارتسمت معاناة القرن في مخيلته، وأدرك أن الانهيار في عمقه خلقي وعقلي، وهو بدوره يشكل أرضية الانهيار السياسي، فصدم واعتزل ثم خرج، وقصته من أبدع السير الذاتية، فقد تحدث عن نفسه بأمانة مذكرا بالساتياجراها لغاندي. وكتب خلاصة هذه التجربة في كتاب صغير هو (المنقذ من الضلال والموصل إلى رب العزة والجلال) وفي كتابه هذا مسح أهم أربعة تيارات في عصره: المتكلمة والفلاسفة والباطنية والمتصوفة.

وقال إنه عكف على دراسة هذه التيارات عندما كان ينتهي من التدريس، فخلص منها في ثلاث سنين، وفند الفلسفة والباطنية والمتكلمة، أما التصوف فشعر أنها تجربة وجدانية لابد من خوضها، وهنا وصل إلى النهاية بكلمة أدق دخل بنا إلى الحالة الغنوصية من اللانهاية، حيث لم نعرف شيئا سوى تجربة شخصية بحتة.

وأذكر جيدا مالك بن نبي لما كان في زيارتنا في دمشق كيف علق على هذه التجربة الروحية؛ أن الغزالي بدا عملاقا في الفكر ولكنه انتهى إلى ما يشبه الفراغ.

والحاصل أن الغزالي كتب تهافت الفلاسفة، ليأتيه الجواب من الغرب في تهافت التهافت من ابن رشد.

كما هو الحال بين نقد العقل في المغرب على يد الجابري، ليأتيه الرد في نقد النقد من الطرابيشي المشرقي. وكلاهما جهد مزكىّ ومحترم. وفي الوقت الراهن ومن خلال عرض هذا الكم الضخم من العمل الموسوعي، فإن من يريد أن يقوم بهذه المهمة فيمسح العصر سوف يواجه أعاصير وزوابع من الاتجاهات لن تنتهي إلى أربعة اتجاهات بل ربما قفز الرقم إلى ما فوق الأربعين.

وهو يعني أننا بحاجة لدماغ مثل الغزالي ولكن مربعا بل ومكعبا ومضاعفا أضعافا مضاعفة عما كانت أيام الغزالي.

ولكن القاعدة والمبدأ تبقى واحدة، فيجب على المرء إن أراد القيام بمهمة المثقف في العصر أن يمسح تيارات العصر وأفكاره ومذاهبه ويتعقب التيارات الكبرى السابحة فيه سبحا فالمدبرات أمرا.

الغزالي درس الاتجاهات المسيطرة في عصره بطريقة لا توصف بأقل من المناهج العلمية التربوية، فهو يقول إنه لا يجب أن يرد على أي مذهب وطريقة قبل الاطلاع الموسع على الاتجاه والتشبع به إلى المستوى الذي برع فيه أصحابه ويزيد، بحيث يصل إلى المستوى الذي يكتب فيه في هذا الفن. وإلا كان الرد في عماية على حد تعبيره. وهذه الطريقة هي غاية في العلمية.

لنتصور أن رجلا أراد الرد على فكرة القومية أو المذهبية أو الطائفية أو الشيوعية أو النازية والفاشية والبعثية فعليه الاطلاع الواسع على المذهب إلى درجة أنه يمكن له أن يكتب كتابا في هذا المجال ما يصلح أن يقرأه أصحاب الاتجاه ويدرسوه لتلامذتهم.

لنتصور أن الغزالي في الوقت الراهن يكتب كتابا بعنوان مقاصد الشيوعية وتوضيح القومية والمدخل إلى البعثية وألف باء الاتجاه القومي الاجتماعي. هذا بالضبط ما فعله الغزالي شارحا موسعا.. وبعدها يأتي النقض الكامل لهذه الأفكار.

هذا ما فعله الغزالي مع كتابه المنقذ من الضلال والموصل إلى رب العزة والجلال.