على مدار العامين الماضيين وربما قبل ذلك توالى الإفصاح في وسائل الإعلام عن ترسية المشاريع الكبيرة على شركتي بن لادن وسعودي أوجيه، ودار في وسائل الإعلام وفي أحاديث المجالس جدل كبير عن مشكلة تسيّد هاتين الشركتين سوق المقاولات في المملكة، واستئثارهما بأغلب المشاريع الكبيرة والمهمة التي تبلغ تكلفتها المليارات، أو ربما عشرات المليارات، وقيل إن هذا يترتب عليه أضرار عديدة، مثل ارتفاع تكلفة المشاريع، وتراجع مستوى التنفيذ، وتمييز الشركتين بتمكينهما من الاستحواذ على الفرص الكبيرة المربحة بكل ما يعنيه التمييز ويترتب عليه من مشاكل وردود أفعال، من أبسطها التضييق على الشركات الأخرى وعدم إتاحة الفرصة لها لتكبر وتساهم في إيجاد قاعدة قوية تواكب النمو الكبير في المشاريع الحكومية وغير الحكومية في المملكة، الأمر الذي يوجد التوازن ويخلق التنافس فيؤدي ذلك لتحسن مستوى التنفيذ وتراجع التكلفة، وغير ذلك.
ولم يقتصر الحوار والجدل الذي تم في وسائل الإعلام وعبر أحاديث المجالس على ذلك، بل شمل أيضاً ظاهرة تصاعد تكلفة المشاريع التي تم اعتبارها نتيجة للمشكلة السابقة أو متعلقة بها بأي شكل من الأشكال، إذ لم تعد المشاريع تلفت الانتباه عندما تبلغ خانة المليارات كما كان الوضع سابقاً بل تجاوز الأمر ذلك، وأصبحت خانة المليارات أمراً عادياً ببروز مشاريع تتم ترسيتها بعشرات المليارات، وغابت المعايير التي تقنع الأوساط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فارتفع الجدل وعلامات الاستفهام، ولم يقتصر الجدل في وسائل الإعلام وأحاديث المجالس على ذلك بل كان يتناول أيضاً ظاهرة لجوء هاتين الشركتين الكبريين (بن لادن وسعودي أوجيه) لتكليف شركات ومقاولين آخرين ببعض الأعمال الموكلة لهما بطريقة التكليف (من الباطن) بأسعار تقل عن الأسعار الموجودة في العقود الأساسية، الأمر الذي يترتب عليه تراجع في مستوى الجودة المطلوبة، وربح للشركتين على حساب الحكومة بدون جهود حقيقية مبذولة منهما... وكان كل هذا (الحديث عن الشركتين وارتفاع تكلفة المشاريع والتنفيذ من الباطن) فيما عدا ما يعلن في وسائل الإعلام عن ترسية المشاريع وأقيامها، مجرد كلام أقرؤه في وسائل الإعلام وأسمعه عبر أحاديث المجالس، ولم يسبق لي أن اطلعت على وثائق تؤكده.
وقد تذكرت كل هذا وأنا أقرأ خطبة الجمعة قبل الماضية لسماحة مفتي المملكة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ عن بعض التجاوزات الخطيرة في تنفيذ المشاريع الحكومية، فقد كانت بحق خطبة لافتة بالغة الأهمية انتقد فيها بصراحة وقوة بعض أوجه الفساد في تنفيذ تلك المشاريع، فقال ضمن ما قال على سبيل المثال إن بعض العقود الحكومية لا ترسى إلا على جهات معينة لا يمكن أن تتجاوزها، وبرر لهذا تبريراً بالغ الخطورة، إذ قال ((لأنها تدفع الرشوة))، كما قال سماحته إن ((هناك رصد موازنات ضخمة لمشاريع لا تستحق هذه الموازنات الكبيرة))، وحذر من الغش في المشاريع الكبيرة لما يترتب على هذا من مفاسد كثيرة، ملمحاً إلى أن حالات الغش بتلك المشاريع التي تتم ترسيتها على مقاول للثقة فيه والتأكد من وضعه فيقوم هو بإيكالها (من الباطن) إلى مقاول آخر، والآخر يوكلها إلى ثالث وهكذا، وعبّر عن هذه الحالة في خطبته بـ((العقود المتعددة التي يربح بها الواحد تلو الآخر))، واعتبر هذا غشاً وفساداً وخديعة، فقال ((فيكون المشروع كله غشاً وخديعة للجميع)).
بصراحة هذا النقد الشديد البالغ الخطورة من سماحة المفتي ذكّّرني بما كنت أسمعه في المجالس وأقرؤه في الصحف، ولا أدري هل سماحة المفتي استقى موضوع خطبته من المصدر نفسه، أم من مصادر أخرى ووثائق وصلت إليه، أم تأكيدات قوية تم إبلاغه بها ممن يوثق بهم، كما لا أدري هل الحالات التي قصدها هي نفسها الحالات التي كنت أسمع عنها وفق ما أوضحته في بداية المقال أم يقصد حالات أخرى، غير أن من اللافت أن سماحة المفتي تحدث عن الرشاوى وهذا أمر يحسب له ويشكر من أجله إن كان متأكداً من ذلك، وأستبعد بالنسبة لحديثه عن الرشاوى وغيرها أن يبني سماحته هذه الانتقادات القوية على مجرد الظنون وأحاديث المجالس وغير المجالس، فحين يرد هذا الانتقاد البالغ القوة والخطورة من شخص له وزنه الكبير مثل سماحة المفتي ويرد في مناسبة هامة مثل خطبة الجمعة فلا بد أن يكون هناك تأكد وتوثيق دقيق لما تم الحديث عنه.
سماحة المفتي تحدث عن أمرين بالغي الأهمية.. ارتفاع تكلفة المشاريع.. والترسية على شركات بعينها.. وليس هناك في خطبته ما يدل على أنه حين تحدث عن الترسية على شركات بعينها بتأثير الرشاوى يقصد ترسية المشاريع الكبيرة، ولذلك لابد من الإيضاح أنه بالنسبة للمشاريع الكبيرة فإن ترسيتها عادة لا تتم بطريقة المناقصات العامة المعروفة بحجة ضرورة عدم الترسية إلا على مقاول موثوق قادر يتم الاطمئنان الكامل إلى قدرته على التنفيذ بالجودة المطلوبة وخلال المدة المحددة حتى لا يتعثر تنفيذ المشروع، ولذلك يتم اللجوء لأسلوب توجيه الدعوات لشركات بعينها يتم انتقاؤها وإجراء منافسة بينها تدخل فيها اعتبارات عديدة، ثم إلى التفاوض، وحين يتم اختيار الشركة المنفذة يكتب للجهات العليا للموافقة على الترسية، لكون هذه الطريقة ليست من صلاحية الوزير المختص، فهل حديث سماحة المفتي عن المشاريع التي لا تستحق ما يرصد لها من موازنات، وعن العقود التي ترسى على شركات بعينها بسبب الرشوة، يشمل تلك المشاريع الكبيرة التي تنفذ بتلك الطريقة التي أوضحتها..؟؟ لا أدري إذ لا يوجد في الخطبة ما يفصح عن ذلك.
وعلى أية حال فما ذكره المفتي عن المبالغة الكبيرة في الصرف على بعض المشاريع، وعن توقيع العقود على شركات بعينها، وهو ما يتقارب مع ما يدور في أحاديث المجالس على نطاق واسع، وكذلك حديث سماحته عن الرشاوى، كل ذلك يمكن أن يؤثر لو ترك دون معالجة على تلك الصفحة البيضاء للعهد الحالي الذي تميز بالاقتراب من المواطن، والاتجاه الإصلاحي، والإنجازات التي كان من أبرزها معالجة ذلك الدين العام الضخم، وتسديده بالتدريج، ثم بناء احتياطيات جيدة للدولة، كانت ومازالت تتصاعد، وقد أوضحت آخر نشرات مؤسسة النقد أن موجودات المؤسسة في الخارج تجاوزت (1700) مليار ريال، ولهذا تبرز الأمور التي أثارها سماحة المفتي وتدعو للتساؤل، مثلما تبرز نقطة الدنس في الصفحة الكبيرة الناصعة البياض، وتكبر الرغبات للقضاء عليها حتى لا تؤثر في جمال الصفحة وبياضها، لذلك فقد يكون من المناسب معرفة ما لدى سماحة المفتي، فإن كان ما ذكره غير دقيق فلابد من حملة إعلامية تصحح ما علق في النفوس، وإن كان صحيحاً فلا بد من علاجه واتخاذ الإجراءات الرادعة بحق من دنس صفحتنا النقية، لتبقى بيضاء ناصعة بدون أية بثور كما يريدها الجميع.