نشهد اليوم تحولات اجتماعية وسياسية متسارعة في العالم العربي ولّى خلالها زمن الانقلابات العسكرية، التي سمّى فيها العسكر أنفسهم ثواراً ضد شعوبهم، مستلبين حريتهم وكرامتهم وحقهم في الاختيار. لقد ولّى ذاك الزمن وجاء زمن آخر يتحرك بفعل الكلمة والتواصل الاجتماعي الإلكتروني الذي صنعته الحضارة الحديثة.
لقد استفاقت الشعوب العربية على كلمة "ثورة" بعد انتهاء سنوات مقاومة الاستعمار، حين تشكلت معظم الكيانات السياسية للدول العربية كبنية قديمة ما تزال حاضرة في نطاق واسع من واقعنا العربي، غالباً ما يجسدها الحزب الأوحد، وسط مشكلات مجتمعية كبيرة لدى الشعوب وأهمها الفقر، وضعف الموارد، وغياب الشراكة السياسية.
وأستطيع القول إن الكثير من الدول العربية تنقلت بين ثلاثة خطابات سياسية هي: الخطاب الجهادي (التحرر من الاستعمار)، ثم الخطاب الانقلابي (الانقلاب العسكري على الحكم المدني)، ثم الخطاب الأيديولوجي الاستبدادي الذي ينافي أصلاً فكرة تداول السلطة في الجمهورية، وبذلك لم تتحقق قضايا صون الحريات بشكل واضح في العالم العربي طوال نصف قرن مضى، وظلت معظم الدول العربية في نسخ متكررة لبعضها خارج إطار الصفة المدنية المحضة، بعد أن أرهقتها شعارات الحرية والجمهورية، وبقي الإنسان العربي المقهور ضحية كبت الأنظمة المستبدة، تدعمها ثقافة مأزومة لتقنين الفساد والظلم والاستبداد، وبالتالي غاب الإنسان عقلاً وروحاً ومعنى، في ظل شيوع أنموذج ما يسمى في بعض الدول العربية بالدولة الأمنية (البوليسية) المعتمدة على القمع والعزل عن العالم الخارجي، في ظل تصور بأنه يقلل حدة التوتر ويوفر الاستقرار. وكأن بعض السلطات العربية انشغلت بتأمين نفسها، واعتقدت أنها ستبقى محصنة للأبد، متجاهلة بذلك الكثير من المنغصات القاتلة لدى فئة الشباب بشكل خاص، وأولها الكبت والتضييق على الحريات، وشيوع الفساد والبطالة، ووجود الفقر حتى لدى من يقال إنها الطبقة الوسطى، وفقدان الثقة بوعود الديموقراطية، فحين غابت الديموقراطية الموعودة لجأت أخيراً بعض المجتمعات العربية للانتقام لذاتها من خلال الثورة التي لم يكن أمامها خيار سواها. إلا أنه في الثورات الثلاث في تونس ومصر وليبيا غاب الفهم كلياً، فلم تستوعب أنظمتها السياسية الدرس من حصته الأولى، أي لم يتم استيعاب الدرس التونسي، حيث اعتبر النظام المصري أنه ليس نظام بن علي، وبدأ بإعادة إنتاج ظاهرة الحمق السياسي، فالنظام التونسي اعتقدَ -في بداية الثورة التونسية- أنه يستطيع السيطرة على الوضع من خلال القمع والقتل والتهديد وإغلاق منافذ المعلوماتية والفضاء الإلكتروني أمام الثائرين.
وحين اتضحت معالم الثورة في تونس بخروج الرئيس بما يشبه الحلم، لم يستوعب النظام المصري الدرس التونسي جيداً وقابل مطالب شباب التحرير بعدم الاكتراث، ويبدو أنه ساد اعتقاد في محيط السلطة المصرية حينها أن ما حدث في تونس استثناء لن يتكرر، غير أن التجمعات في ميدان التحرير كانت تكبر ككرة الثلج، فتنحى الرئيس، ولم تجدِ كل محاولات النظام إصلاح ما أفسده طوال عقود مضت، فكرر أخطاء السلطة التونسية ذاتها مضيفاً التلويح بورقتين إضافيتين: الجيش، والموالين للحزب الحاكم. لكن الجيش المصري وقف موقفاً وطنياً طالما اشتهر به على مدى تاريخه. بالتأكيد أن التاريخ لا يعيد نفسه رغم تشابه الأحداث، حيث انتهى الدرس المصري وبدأ الدرس الليبي الذي ما يزال جارياً، ولم يستفد نظام ليبيا من التجربة المصرية، معيداً إنتاج الحماقات السياسية بشكل مخيف، وزاد عليها أموراً لا تخفى على المتابع، فقد كرر محاولة تجميع الموالين، وزاد عليها بتجميع المرتزقة من دول وأناس شتى، واعتمد التشويش على القنوات الفضائية، وقطع وسائل الاتصال، فكان الأمر أشبه بمحاولة حجب ضوء الشمس بغربال.
ثار الليبيون ضد الاستبداد بعد أربعة عقود من الحكم بالحديد والنار، والتغييب الكامل للإنسان وتكريس سلطة الفرد الواحد، حتى إن الزعيم نفسه لم يصدق ما حدث فعزا الأمر إلى العين! وما زال الليبيون يدفعون دماء أبنائهم ثمناً للتحرر والثورة على الاستعباد السياسي والطغيان والعنف. وعن العنف السياسي يقول أستاذ القانون في جامعة شيكاغو (ريتشارد إيبستين): "العنف ينتج تأثيرات اجتماعية مختلفة جداً عن المنافسة، لأن مكسب أي فرد هو بالضرورة خسارة لآخر. العنف لا ينتج فوائد متبادلة. إضافة لذلك، فتأثير طرف ثالث على العنف هو نشر الخوف بين جميع السكان. ليس هناك ما يدعو للاعتقاد بأن المستوى الكلي للثروة والسعادة في المجتمع سيبقى ثابتاً عندما يصبح تحمل الاعتداء على الحرية والملكية مسألة عادية. هناك موارد هائلة ينبغي إنفاقها على الهجوم والدفاع بحيث إن مستوى الثروة (الكعكة الاجتماعية) سيتقلص من خلال عملية إعادة توزيع الثروة بالإكراه. العواقب الاجتماعية السلبية للعنف تقف في ناحية مضادة تماماً للعواقب الإيجابية المنافسة".