يقول أهل السياسة إنها فن الممكن وعلم إدارة الصراع الناتج عن اختلاف الرؤى والمصالح.أ ي استخدام أنجع الوسائل لضبط سنة التدافع، التي هي من طبيعة المجتمعات الإنسانية. وقوام السياسة تحقيق المصالح وتبادل المنافع ودفع الأضرار. وحتى تظل سفينة السياسي تبحر في "مزاج مواطنيه" وتستجيب لرياح المصالح فإنه يحتاج إلى بصيرة واعية قادرة على قراءة المتغيرات من حوله والتمتع بالمرونة الكافية للتفاعل معها.. وهكذا تأتي "القيم" لاحقة في سلم أولويات الكثير من السياسيين حين يستخدمون فن الخطابة والشعارات خدمة للأهداف والمطامع.. وهذا ما يمكن قراءته في دعوة الرئيس الفرنسي ساركوزي حين نادى بإعادة النظر في التعامل مع المنطقة العربية بعد هبوب رياح التغيير. وكأنه أدرك – متأخرا بعض الشيء - أن مصالح فرنسا الجوهرية هي أن تبقى في وعي الشعوب العربية منارة الحرية ورافعة شعار حقوق الإنسان والدفاع عن قيم الثورة الفرنسية.

ساركوزي كسياسي انتهازي – وهذا الوصف ليس ذما ، فكل السياسيين انتهازيون، لأن السياسي المحترف هو الذي "ينتهز" الفرص ويقرأ اتجاه رياح التغيير قبل هبوبها ليفتح أشرعة سفن مصالح بلاده حتى تبحر في بحر المكاسب - يأتي اليوم ليلتقط "الرسالة" الآتية من الشارع العربي ويدعو إلى "إعادة النظر" في العلاقات مع هذا العالم المرشح للدخول في مرحلة تغيير حقيقية.. فهل يمكن اعتبار هذه الدعوة "مشروعا" جديدا في العلاقات الدولية والحوار الحضاري يستحق التأمل والاستقبال بالجدية التي تستحقها فرنسا؟ أم أن المنطقة العربية في حال "رخاوة" وتشكل يشغلها بذاتها عن "التقاط" مثل هذه الدعوة والتفاعل معها بما يحقق المصالح؟. "فن الممكن" يقول بضرورة الترحيب بهذا التوجه الذي يدعو إليه سياسي محترف مثقف يستند إلى تأثير فرنسا في وعي الرأي العام الغربي. وعدم التصلب خلف المواقف الجامدة وتضييع الفرصة لإحداث تغييرات جوهرية في الغرب نحو قضايانا الكبرى؟.

وربما يكون من المفيد أن نذكر القارئ الكريم ببعض مواقف وأفكار الرئيس ساركوزي، فلعل ذلك يعطي دلالات تساعد على قراءة وتفسير وفهم دعوة الرجل. فمن مواقفه الدالة رفضه المتكرر لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي لأنه يرى أن " مكانها الحقيقي هو الشرق الأوسط" وهذه "الميزة" تجعل الأناضول حلقة وصل بين الشرق والغرب ولا يمكن الاستغناء عن هذا الدور ولا يمكن لأي دولة أن تقوم به". وحكمه على "موقع" تركيا ليس تقريرا لحقيقة "جغرافية" بل هو تحديد "لخطوط حضارية" في خريطته الثقافية المهتمة بالشأن الديني وتتبع تأثيره على حياة الناس. وربما لا يعرف الكثيرون اهتمام الرجل بالقضايا الدينية منذ أن تولى وزارة الداخلية وأمسك بملف التنظيم القانوني لمسلمي فرنسا. وتتجلى عنايته بتأثير الدين على المجتمعات في كتابه " الجمهورية والديانات والأمل" الذي صدر في طبعته الأولى قبل انتخابات 2007.. وهو عبارة عن مقابلة خاصة أجراها مع أستاذ الفلسفة تيدو كولان ورجل الدين فليب فيردان تناولت "الدين والعلمانية" ، "الإسلام والجمهورية" ، "الطوائف" ، " الكنائس وأوروبا" ، " الدين والتربية".. و في هذا الكتاب يكشف عن عمق معرفته بأحوال الكنيسة الفرنسية وإعجابه ببعض رجالاتها وقناعته بأن " رجال الإيمان هم بمثابة عنصر تهدئة وسكينة بل إنهم عنصر حضارة وإن الروح الدينية والسلوك الديني العملي قادران على المشاركة في تنظيم وتهدئة مجتمع الحرية". و يدافع عن الفكرة القائلة بضرورة الدين للحياة والمجتمعات والحضارة. ويقول إن "الديانات تشكل رهانا رئيسا للمجتمع لأنها مركز الأمل". وهو مقتنع بأن " الديانات لا تشكو من أزمة تتعلق بها كديانات ولكن أزمتها تكمن في تطبيقاتها وفهمها" لكن هذا الاقتناع لا يصرفه عن الدعوة إلى "تحديث الدين وتقديم قراءات جديدة أقل حرفية"..

وتبدو دعوة الرئيس ساركوزي، في نظر الكثيرين، مستحقة للتشجيع والترحيب والتقدير رغم ما فيها من "نفعية" ظرفية تقترب من الانتهازية لكن – كما قلنا هذا من طبع السياسة – فالمنطقة العربية تمد أيديها إلى كل الشعوب والأصدقاء لتبادل المصالح وتعميق الفهم المشترك وإزالة أسباب سوء الفهم. وبذلت الكثير من الجهد في هذه السبيل مع المنصفين لأدراك أن التخويف من "الإرهاب الإسلامي" فزاعة وهمية كانت الأنظمة الدكتاتورية تخوف بها الرأي العام الغربي، وكانت الأنظمة (الديمقراطية) في الغرب ترهب بها الرأي العام وتوظف هذا التخويف لإقناع شعوبها بسلامة وصوابية مواقفها في دعم الأنظمة المناقضة لمبادئ الحرية والديمقراطية. والدعوة تدل على اهتمام القوى الدولية بقراءة المشهد السياسي في المنطقة العربية وتعطي إشارات عن قلقها من هبوب رياح جديدة ستدفع بالكثير من "السفن القديمة" إلى الرصيف السياسي قبل أن تتحطم على الأمواج الهادرة .. وتتوقع نظرات الاستشراف المستقبلية أن هذه الرياح ستنقل معها "بذور" أنظمة مختلفة وستأتي بأجيال جديدة تتخلص من قيود الشعارات التي أهدرت الكثير من الطاقات.. ولعل شعارات الثورة التونسية والمصرية وعبقرية الروح الوطنية التي وحدت الشعب الليبي – رغم تركيبته القبلية – ضد الظلم تنبئ عن ملامح المستقبل لهذه الأنظمة.. وسيكون من المفيد أن ينظر الغرب إلى المنطقة نظرة منصفة تعترف بقدرتها على التغيير الإيجابي الحضاري الذي لا يرفع شعارات تدمير الآخرين أو معاداتهم.. وسيكون من النافع أن تدرك الأنظمة الغربية والرأي العام الغربي أن شعوب المنطقة لديها تطلعات إنسانية وطموحات مشروعة مثل كل المجتمعات الإنسانية التي لا "تعيش" بالخبز وحده. وستخطئ حكومات الغرب إذا ظلت أسيرة النظرية القديمة القائلة بأن "الأنظمة الدكتاتورية توفر لشعوبها الخبز وهذا يكفيها" .. هذه النظرية البائسة التي تحصر تطلعات الإنسان في "حظائر العلف" تخطئ في حق أهل المنطقة وتخطئ في قراءاتها وتحقيق مصالحها.