أثارت الأحداث التي عرفتها تونس دهشة الأوروبيين وإعجابهم المشوب بالتساؤل والقلق من الآتي. ولا يخفى على أحد حقيقة وعمق الرهان الجغرافي ـ الاستراتيجي الذي تمثله منطقة جنوب البحر المتوسط عامّة، والمغرب العربي خاصّة، بالنسبة لأوروبا.
إن أغلبية المهاجرين الذين يعيشون في فرنسا وألمانيا وإيطاليا هم من المغاربة الذين احتفظوا بروابط وثيقة مع بلدانهم الأصلية، بسبب واقع القرب الجغرافي ومخلّفات التاريخ الاستعماري. وينبغي ألا ننسى أيضا دور حقائق الاقتصاد في تعاظم درجة الاهتمام الأوروبي ببلدان المغرب.
إن نسبة هامّة من الغاز المستهلك في أوروبا اليوم مصدرها الجزائر والوجود الصناعي والتجاري و"السياحي" الأوروبي كبير في المغرب وتونس.
ما يتفق عليه الجميع في أوروبا هو أن ما جرى في تونس يعبّر عن "حركة في العمق" لها دلالاتها الكبرى البليغة. الدلالة الجوهرية الاستراتيجية هي أنه لا منتصر مرّة واحدة وإلى الأبد وأن التاريخ لا ينتهي، بل لا يتوقّف، فهناك دائما محطة أخرى في مسيرته.
ومن هنا رأى كُثر في الهبّة التونسية نوعا من "الصعقة الكهربائية" التي أيقظت ما كان يُظنّ أنه ميت وأثارت الكثير من الشكوك حول ما كان يُنظر إليه كمسار ثابت ونهائي. إن عشرات الأمثلة ساقها أصحابها هنا للتدليل على الجمود والقصور اللذين سادا في الرؤية الأوروبية التي قدّمت تونس في ظلّ النظام السابق على أنها نموذج جدير بأن يكون قدوة في محيطه الإقليمي. بل وجرى تقديمه على أنه نموذج قريب من "الأصل" الغربي.
كان دومينيك ستروس كاهن، مدير صندوق النقد الدولي، وأحد المرشحين المحتملين البارزين عن معسكر اليسار الفرنسي للانتخابات الرئاسية القادمة في فرنسا، صرّح في نهاية عام 2008 أن تونس تشكّل النموذج الأفضل للاقتداء به من قبل العديد من البلدان الصاعدة.
ما أثبتته أحداث تونس للأوروبيين هو شيء آخر، متباين. لقد برهنت على أن الفكر الليبرالي ليس هو سيد الموقف دائما وأن الاقتصاد ليس وحده محرّك التاريخ. بل فهم كثر في أوروبا ما جرى في تونس كرسالة مفادها أن العدالة الاجتماعية هي الرهان الحاسم لمستقبل تونس وغير تونس. وليست قليلة هي الأصوات التي ارتفعت مطالبة بـ "أوروبا أكثر عدالة".
لقد تعددت التفسيرات والتأويلات في أوروبا حيال ما جرى في تونس، لكنها أكّدت كلّها على أنه يشكّل منعطفا فاصلا بين ما قبله وما بعده. هذا ما عبّر عنه سيل المقارنات التي قام بها المحللون والقادة السياسيون. وعبّرت عنه أيضا المرجعيات التي تمّ استخدامها والتي لم تغب عنها الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789.
وليس أقلّ المقارنات دلالة تلك التي شبّهت ما قام به الشعب التونسي في مطلع هذا العام بسقوط الأنظمة الشيوعية في أوروبا الوسطى والشرقية بعد انهيار جدار برلين عام 1989. وتحدث البعض عن أحداث غدانسك في بولندة في صيف عام 1980 عندما أطلق العامل ـ ورئيس الجمهورية فيما بعد ـ ليش فاليسا ورفاقه الحركة التي كانت بمثابة الشرارة التي أشعلت الحريق في المنظومة الشيوعية كلّها. كما تكرر الحديث عن تجربة شاوشيسكو في رومانيا.
بعض التفسيرات الأوروبية اتخذت منحىً آخر أقلّ "ثورية". لقد اعتبر أصحابها أن النظام التونسي السابق والنظام الذي سبقه في ظل الحبيب بورقيبة فتحا الأبواب لأفواج السيّاح ولأمواج الأفكار الليبرالية وساهما في تكوين طبقة وسطى كبيرة و"متنوّرة " كان لا بدّ من أن تطالب بحقوقها على غرار ما كانت قد عرفته إسبانيا في ظل الجنرال فرانكو.
ومثلما تفجّرت الأحداث في إسبانيا سابقا تفجرّت بداية العام في تونس. هذا مع الإشارة إلى أن المخرج في إسبانيا تمثّل في وجود من أمّن آنذاك استمرارية الدولة ووحدة البلاد في شخص الملك الإسباني الحالي خوان كارلوس. فهل هناك اليوم خوان كارلوس "تونسي"؟!.
مهما كانت المقارنات والتفسيرات والتحليلات يتفق الجميع أن هناك ما قبل انتفاضة شعب تونس وما بعدها.
لكن يبقى السؤال الكبير عمّا ستؤول إليه الأوضاع في تونس، فأكثر ما يثير رعب السياسة هو "الفراغ" ومن "يملؤه".