ما زلت أذكر شكل وموقع دارها على حافة حارتنا القصوى حيث لا بعدها إلا أحراش جرداء تحدد بدايتها شجرة أثل بقيت على حالٍ بين الحياة والموت سنين عديدة.. رافضة أن تنبت أوراقا تهب تلك الدار شيئا من ظلٍ تنتظره.

كانت نتاج زواج ظنَّ بأن الفقر إلى الفقر قد يقضي على المكتوب، ولكنه اكتشف دونما طويل زمن أن ذلك قد خلق شيئا من الكفاف وكثيرا من القناعة. والدها كان مربوعا أحمر الوجه يكاد الدم يتفجر من خديه.. ووالدتها كانت أبنوسية غير ذات لمعة إلا عينيها اللتين كانتا تلمعان بحنان الرضا. كيف اجتمعا!؟ هو أفغاني شديد الرقة رغم ملامحه ورغم حرفته في شحذ السكاكين، وهي من تلك القارة التي أغرقتها أنواع من السواد متعددة. ما بينهما كان هوى البقعة الطيبة التي ألقيا بأنفسهما للمقادير لتحملهما إليها.

حين يبتهج النهار بصباحه كان يخرج حاملا على ظهره "عدة" تنوء بحملها الأجسام ليخرج من براثن أزقة الحارة متجها إلى مكان ما وسط المدينة. لم يكن له موقع محدد وإنما كان يتلمس الرزق في مظانٍ لم يحسنها كثيرا. لمحته في شارع العينية مرات وفي سوق التمارة مرات وبينهما كان يقف حين تحين سانحة من رزق ليشحذ سكينا أو فأسا مقابل قروش تقيم أود حياته. وكان عيد الأضحى هو موسم ازدهارٍ بالنسبة له.. إلا أنه موسم لا يكاد يكفي لرسم نصف ابتسامة.

جاءت خيرية بملامح مختلطة رغم طغيان الافريقية عليها، إلا أن لونها كان بهيجا يصعب وصفه..لون لا تحمله دائرة الألوان.."شمس منيرة سوداء". كنت ألمحها وهي تحمل كتبها متجهة إلى المدرسة وأظن بسمتها التي تصارع ما خلفته من بؤس أثمن ما كانت تملك. لم تكن ملابسها مهلهلة وإن كانت مما يبدو أنه مر على أجسادٍ قبلها. ومع ذلك فقد حمَّلتها عزة نفس خيرية كثيرا من الألق وكانت الشريطتان الملتفتان حول "كرديلتين" من شعرٍ لم تنقصه العناية أبهى ما تفتخر به.

كانت أحوالنا تُصنَّف في درجة الـ "لا بأس"، وكانت المسافة بين تلك الدرجة "البأس" بعيدة جدا.. وكنت أحمل تحت جنح الليل ما لا أعرف محتواه مما كانت والدتي تبعث به لتلك الدار. وكنت أعود محملا بابتسامة الوالدة ودعائها.. وبأسف أنني لم أبصر خيرية.

انتظرَت ووالدتها عودة والدها ظهرا.. واستبد بهما القلق حين سقط الليل الذي لا يجابهه فتيل "اللمبة" القابعة مثلهما تنتظر.. لجأت الأم إلى الجيران مستغيثة.. وتفرق جمع للبحث عنه والسؤال. كانت النتيجة قاتلة إذ اتضح أنه سجن لعدم حمله إقامة في حملة أمنية قبل سنوات طويلة. تدخل كثير محاولين فك أسره معلنين أنه مرت عليه أكثر من خمسين سنة كان بإمكانه خلالها أن يحصل حتى على الجنسية لو أراد، ولكنه كان يحسب ذلك ترفا لا يستدعيه جوار الحبيب الذي هاجر إليه. وغادر الوالد إلى خارج البلاد دون أن يُمكَّن من توديع أحب من لديه وربما الوحيدتين اللتين أحب. وكانت أفغانستان هي المستقر الذي ألقي إليه وغابت أخباره تماما واعتقد البعض أنه ربما قضى في الحرب هناك.. وكنت أظن أنه مات قبل أن يصل فالسبعون وقسوة الفراق أشد من أن تصل به إلى أي مكان.

لم يكن ينقص الشظف إلا مزيد من الأسى.. وبقيت الدموع الممزوجة بالدعاء الزاد لتلك الأسرة سنوات طويلة.

قبل أيام.. جاء السؤال القاصم الإجابة.. "تتذكَّر خيرية!؟".."ياااه.. نعم.." وتبادلنا الذكريات مستكملين الكثير من الصور.. ولكن! "تصدق!؟ خيرية أصبحت تخدم في البيوت".. توفيت والدتها.. وتزوجت هي ممن قُدِّم إليها منقذا.. إلا أنه نسيها تاركا لها سبعة أطفال يحتفي بهم البؤس الذي لا ينتهي.."والحل؟".. "من صاحب الحل".. فقد قيض الله لها أحد الجيران ليستضيفها خادمة في منزله دون أن تعمل.. فقد كان الصرع الذي يصيبها أقسى من أن تقف بما تبقى من هزال.. رغم محاولاتها الدائبة تقديم أي شيء حفاظا على ماء وجهها. كانت خيرية تكتب على سبورة سوداء بالطبشور الأبيض.. وتغير الزمن وأصبحت السبورة بيضاء تكتب عليها بأقلام سوداء.. ظننا أن الأمر تغير ولم نلاحظ أن ما كانت تكتبه لم يتغير.. وأنها لم تحمل بيدها أبدا ما يمكِّنها من محو ما تكتب.