يقول المشهد الثقافي والإعلامي في مصر الشقيقة إن البلد ـ نخباً وجمهوراً ـ مشغولون تماماً بنبش الأوراق القديمة بدلاً من البناء للمستقبل. وأخطر أمراض الثورة هي تلك التي تحاكم المواقف لتسأل وجوه الشعب من هو الذي كان (مع) وتفرز من كان (ضد). ومن يقرأ صحف مصر العزيزة يلمس هذا بكل وضوح حين أصبح السبق الإعلامي هو امتحان مواقف الآلاف من نجوم المجتمع من الفنانين والرياضيين والمثقفين ومن هو بينهم الذي نزل للميدان ومن هو الذي جلس في بيته.

ذروة المشهد أن يحاكم اثنان من المثقفين ممثلة مثل سماح أنور على مواقفها لنصف ساعة على قناة فضائية، أو أن تفرد صحيفة مستقلة صفحة لمحاكاة موقف المدرب المصري حسن شحاتة. وبكل صراحة، فقد تحول المشهد الإعلامي والثقافي وحتى السياسي القانوني إلى مكارثية مخيفة.

وبدلاً من أن تواصل الثورة أهدافها من أجل المستقبل، فإنها تلوي عنقها للثأر ومحاكمة المواقف، وهذا واضح بكل جلاء في أدبيات الإعلام المصري بكل أقنيته.

مصر اليوم، بحاجة ماسة إلى استنساخ أسلوب ـ مانديلا ـ في العفو والصفح والبعد عن الانتقام والثأر، ومثلما ذكر هذا العملاق في كتابه وهو يبرر هذا الاتجاه "لأن بناء الدولة الهدف يستلزم ألا نستغرق في قصص الماضي، ولأن قصص الماضي أيضاً ستكشف أنها كانت عرضة للمبالغات والإشاعة".

وخذ بالمثال ثروة الرئيس السابق التي ما زالت أولوية إعلامية مطلقة. قناة الجزيرة ومصادرها قدرتها بثمانين مليار دولار والنيابة العامة الرسمية تقدرها بمئة مليون دولار في بيانها الحكومي مساء السبت. وبقدر ما بين هذه الأرقام من ضلال وتضليل للرأي العام بقدر ما لمحاكمة المواقف من إلهاء للثورة وللشعب عن القادم الآني والبعيد. ما هي القيمة الفعلية لمواقف سماح أنور أو حسن شحاتة من الغد المصري؟ وقس على هذا آلاف النجوم الاجتماعية حين ينشغل المشهد المصري باستجلاء مواقف لا تقدم ولكنها تؤخر. ثم إن أبسط قواعد ـ الديموقراطية ـ التي تنادي بها الثورة أن تحترم مواقف الأفراد، وأن يكون لكل فرد صوته الحر المستقل ووجهة نظره التي يعبر عنها بكل حرية. ما أشاهده بكل وضوح أن ديكتاتورية عفوية تنزلق باسم الثورة مكان ديكتاتورية بائدة. هذا دليل على أن الثورة الوليدة لم تتخلص من العيب الأزلي للذهنية العربية الشاملة. ذهنية لا تعيش إلا على الثأر والانتقام وعشق المحاكمة. هذه الذهنية لن تبني وطناً ومستقبلاً إن لم تنتبه لهذا الخطأ الفادح واسألوا نيلسون مانديلا لماذا بلغ الآفاق رغم النشوة الهائلة للتجربة.