في إعلان الدوحة 2001، وبعد أن تظلمت الدول الفقيرة من ارتفاع أسعار الأدوية واحتكار شركات العقاقير، عابرة الحدود العملاقة، لحقوق الملكية الفكرية، والتصدي للاتجار بالأدوية البديلة المقلدة، أعلنت منظمة التجارة العالمية السماح للشركات المنتجة للأدوية البديلة تصديرها إلى الدول الفقيرة التي لا تستطيع إنتاج هذه الأدوية أو استيراد النسخ الأصلية، معلقة بذلك ما يعرف باتفاقية حقوق الملكية الفكرية المتعلقة بالتعاملات التجارية أو (TRIPS)، التي كانت تمنع وصول الأدوية الرخيصة إلى المجتمعات التي تعاني المرض والفقر، من خارج حدود الدولة.

لم يدم هذا العرس طويلا فقد أجهضت الولايات المتحدة الأميركية ودول أخرى أوروبية، هذا الإعلان، ووضعت قوانين أكثر صرامة لحماية حقوق الملكية الفكرية وبراءات الاختراع في تعاملها مع الآخرين، وحالت بين الدواء وكثير من المرضى الفقراء المحتاجين إليه، ورأينا ذلك مع أنفلونزا الخنازير.

إن أسعار العقاقير الضرورية، وغير المسجلة، لمرضى نقص المناعة المكتسبة "الإيدز"، التي تحميهم من أمراض متلازمة مع الإيدز، لا تزيد عن 4% إلى 7% من قيمة مثيلاتها من العقاقير المسجلة في أروقة منظمة التجارة العالمية. وتكلفة عبوة 100 كبسولة من زينتاك في تايلاند لا تزيد عن دولارين بينما في تشيلي تباع بقرابة 196 دولار.

كم من الأفارقة المصابين بالإيدز سينتفعون من علاج فلوكونيزول إذا ما سمح لهم استيراده من تايلاند بتكلفة 104 دولارات للمريض سنويا مقابل 3000 دولار، قيمته من شركة بيفزر. واليوم تقاضي شركة جلاسكو مستوردي العقاقير المقلدة، وبيعها بأسعار مخفضة، لمكافحة الإيدز وتبعاته في أوغندا وغانا.

لا يعنيهم أن يموت ثلاثون ألف إنسان في العالم يوميا، معظمهم من الأطفال الفقراء، بسبب أمراض وأوبئة يمكن معالجتها والحماية منها، مثل الإسهال والأمراض الصدرية. لا يعنيهم أن يقف فقر هؤلاء وعوزهم عائقا أمامهم في الوصول إلى العلاج المتوفر في أسواق الأثرياء، والمصنع حصرا للأغنياء وأطفال الشمال. وهناك ملايين آخرون تصيبهم الإعاقة الدائمة أو تتلبسهم الأمراض المزمنة لنفس السبب لا يعيرهم أحد نظرة ولا تنالهم شفقة. كل ذلك في ظل القوانين التي تسنها، وبمباركة هيئة الأمم المتحدة وإداراتها المختلفة، كمنظمة الصحة العالمية.

لن يكون بعيدا ذلك اليوم الذي سوف ترى فيه كل شيء ملكا لحفنة من المؤسسات عابرة الحدود والشركات الغربية العملاقة. يومها ستكون هي من يقرر من بمقدوره أن يأكل ومن يعاني الجوع، ومن يتلقى العناية الطبية ومن يحرم منها. وتكون هي الشرطي الذي يطبق العقوبات، وتشمل الفقر والجوع والمرض والحرمان، على كل متمرد يشق عصى الطاعة.

قد يأتي اليوم الذي لابد أن يدفع الجراح إتاوة الملكية الفكرية لشركات في واشنطن أو فيينا على أسلوب أو بروتوكول مسجل قبل أن تمس يده المشرط ويبدأ الجراحة، ويموت من لا يملك أن يدفع. وقد قرب اليوم الذي لا يمكن لمزارع أن يمارس المهنة إلا أن يدفع الرسوم للشركات التي تحتكر البذور المعدلة وراثيا والمبيدات الكيماوية المسجلة.

فبعد أن رفض الكونجرس الأميركي السماح بتسجيل حقوق الملكية الفكرية لنباتات تنمو من بذور، في ثلاث مناسبات متفرقة (1930، 1968، 1970)، على أنها من صنع الطبيعة، شرع في عام 1985 الأبواب لاستقبال طلبات تسجيل حقوق الملكية الفكرية لهذه النباتات. وتزاحمت الشركات على أبواب مكتب تسجيل براءات الاختراع وحقوق الملكية الفكرية، وبدأت حقبة جديدة من الاحتكارات. ففي عام 2000 احتكرت أكبر 10 شركات بذور في العالم 33% (23 مليار دولار) من السوق و90% (31مليار دولار) من أسواق الكيماويات الزراعية.

وتسابقت شركات التقنية الحيوية لتسجيل اكتشافاتها وابتكاراتها في تعديل المورثات الحيوانية والنباتية وسعت حثيثا لتسجيل حقوق الملكية الفكرية لرسم الخرائط الجينية لبني البشر وطرق الكشف عن الأمراض الوراثية والتحكم فيها أو تعديلها.

لكن ومنذ ثلاثة أشهر تقريبا أعلنت وزارة العدل الأميركية أنه لا يمكن تسجيل حقوق الملكية الفكرية للجينات، أو المورثات المهندسة، الآدمية وغيرها، وبذلك تعطل العمل بنظام ساد لعقود. جاء ذلك على خلفية الحكم في المرافعات القضائية بين شركة ميرياد وبين مجموعة من العلماء والمؤسسات غير الحكومية على شرعية تسجيل أساليب الكشف عن المورثين ((BRCA1, BRCA1 اللذين يحددان الاستعداد لدى المرأة لنمو سرطان الثدي. لم تنته المعركة، ولا يزال الحكم قيد الاستئناف. يذكر أن شركة ميرياد تتقاضى 3000 دولار مقابل فحص الجينات والكشف عن الخلل، بينما يمكن إجراء الفحص بأقل من مئتي دولار مع غير ميرياد.

وفي مذكرة لمعهد وبرتال للبيئة والطاقة والمناخ تقول " إن الشركات عابرة الحدود مع منظمة التجارة العالمية، والبنك الدولي وصندوق النقد، إنما تؤسس لنظام يؤثر الأغنياء ويزيد من تركيز الثروات والقوة بأيدي قليلة. وفي كتاب لبنكي مون نشر في باريس عام 2002، يقول المؤلف إن "منظمة الصحة العالمية تقف أكبر عائق في تجارة الأدوية البديلة"، والتي لا يعني أنها أقل جودة أو فاعلية، فقط أقل كلفة.

يمكن أن نتفهم الحاجة إلى مكافأة من يعمل على خدمة الإنسان، سواء كان باكتشاف دواء جديد أو ابتكار آلة وتطويرها، لكن لا نقبل المبالغة ولا نرضى الابتزاز. يمكن قبول الاحتكارات في حقل الأزياء والموضة وفي الكماليات ومساحيق التجميل والتبرج، لكن عندما يصل الأمر إلى الدواء والغذاء، تختلف الرؤية وتتغير الأحكام.