لم يهدأ الغليان بعد. لا الحناجر بحت ولا لعلعة الرصاص توقفت.

اختلفت العواصم وتشابهت الأحداث.

سياق متواصل شجي ومزعج معاً، فمن فعل كل هذا بأمتنا؟ وهل كانت المطامع الخارجية وخصوم الأنظمة العربية والإسلامية يستطيعون الإجهاز على حكوماتنا الديمقراطية بامتياز والجمهورية حتى النشيج لو لم يبدأ الحاكم نصب الفخاخ لنفسه يوم تجاهل المطالب العادلة وأنكر الحقوق المشروعة وأدار ظهره للجماهير وجعل حاشيته مكان الشعب؟

حسبتها ثورة انفعالات عابرة ما تلبث غير قليل ثم تهدأ. وتبعاً لتقديرات أولية كهذه حاولت مقاومة أشواق مكبوتة تعكس حاجة الإنسان – في كل عصر ومصر – للخلاص من الاستبداد والقهر، غير أن مجريات الأحداث كشفت الأمر على نحو مختلف.

هي ثورات مكتملة الأركان يحركها جيل من أبناء الفقراء والمعدمين وتسندها كتائب من المتنورين الأحرار وتباركها قاعدة عريضة من ذوي المرتبة الأدنى في سلم المواطنة.

رأينا من واقع تونس ومصر ألا وقت للخدع الماكرة في قاموس الحاكم إذ يعيد جزءا من الحقوق على شكل رشاوى ولا مكان لحيله المعتادة إذ يقدم التنازلات السياسية ابتغاء هدنة مرحلية.

فات أوان الترقيع ولم تشفع الخطابات المحذرة من الفتن الداخلية والمخططات الخارجية، كل ذلك ذهب أدراج الرياح دون مردود يذكر.

ولا غرو أن يكون قرار الانحناء للعاصفة وإعلان بعض الزعماء تنحيه عن السلطة آخر خدعة تبتكرها أجهزة الحاكم، وتكتشف معها أية درجة من الوعي واليقظة يتمتع بها أولئك الذين كانوا رعاعاً في نظر النظام السياسي.

قفز الرعاع من الذروة إلى ما يليها من الطبقات العازلة، أسقطوا رأس النظام وتحروا حقيقة هذا السقوط وصولاً نحو الصف الثاني فالثالث، إنها حملة نظافة متقنة يمارسها الشباب، وسط أزقة مظلمة وشوارع غارقة بالنفايات.

كم كان الرئيس التونسي المخلوع عاقلاً وهو يبكر بالمغادرة، ويجعل كلفتها في أضيق الحدود. وكم كان الآخر دموياً ومغامراً إذ يتخذ قرار الإبادة الجماعية، تلبية لرغبة شعب وتحقيقاً لإرادة الليبيين الأوفياء مع القائد التاريخي المبجل، ومكافأة له على الارتقاء بوطنه إلى مصاف "دولة عظمى".

هل كان الديناصور عرافاً محترفاً غداة اختيار (الفرار إلى جهنم) عنواناً لأحد مؤلفاته، وهل كان القائد صادقاً في التعبير عن طواياه عندما وسم كتابه الثاني (الأرض المحروقة)!! إنها نبوءات فاحشة جرى استيعابها واختبار مصداقيتها في واقع الممارسة العملية، ولعل ذلك قد شجع القائد الرمز على مطالبة شعبه بالغناء ودعوة الجماهير للرقص فوق أشلاء الجثث، وعلى إيقاعات القصف العشوائي المجنون.

أجزم أن الجماهير ستلبي طلب القائد، وتخرج إلى الساحات العامة راقصة في لحظة صوابية على فراسته المبكرة (انتحار رجل الفضاء)!!

ثمة مقولة تتردد في عواصم عربية أخرى تصف التداعيات الثائرة بالتقليد والمحاكاة، حسناً، وهل يعيب فكرة التحرر من براثن الاستبداد انتقالها من بلد لآخر؟ إذ العيب كل العيب أن تنجرف الأنظمة العربية لمحاكاة عميد الزعماء العرب نموذجه الكارثي في التعامل مع شعبه.

أكتب عن المشهد الليبي لفظاعة أحداثه، وقتامة ملامحه، غير أن هذا لا يعني التهرب من أولوية رصد المجريات العاصفة على مسرح الحياة السياسية في اليمن، بما هي بلادي ويعز علي أن تبلغ أحوالها هذا القدر من الاحتقان.

نحن في اليمن، لا ننكر على النظام إنجازاته، ولكنا لا ننكر وصوله مرحلة الشيخوخة، على أكثر من صعيد.

إنه يبتكر معاول هدم تطوح بمكاسبه السابقة، وهو إلى ذلك ينشغل بصناعة الخصوم، وتأجيج النزاعات الداخلية، وانتهاج سياسات تدر عليه نقمة الشعب.

إن المشهد في مختلف أنحاء اليمن لا يبشر بخير، وما يحدث اليوم من تداعيات لا يعدو المقدمات الأولية التي تسبق العاصفة.. ها هو النظام يعالج اعتلاله باختلاق مؤسسات غير دستورية، سرعان ما انقلبت عليه، ويقدم تنازلات من لا يملك وطنا لا يستحق.

ما يزال الأمر في بداياته من صراع السلطة مع ذاتها، وانقسام التحالفات السياسية في منظومة الحكم على نفسها.

حقاً، اليمن حبلى بالمفاجآت، والحكومة بإعاقتها للتغيير السلمي تدفع ثمن عناد لا سبيل لتفاديه.