عبّود الجابري شاعر عراقي، يقيم في الأردن منذ العام 1993 كتب في ديوانه الأول "فهرس الأخطاء" عن عابر وطن: (يعبر الفرات/ رأسه يغطس في القرارة/ لكنه لا يستغيث).. وعن بلادٍ تضيق بأهلها: (ليس لنا/ سوى العمر الذي لا يأتيه النوم...). هذا الصبر العراقي الذي تنطبخ فيه تجربة جيلٍ ذاقَ العسف واختبر بمرارةٍ دروبَ الهجرة ومحطّات المنافي: (نحمل الخارطة المهترئة/ ونمضي/ باتجاه كرةٍ أرضية/ جميعُ ما فيها ينثر علينا أسمالَه).. جيل تفدح به واقعة خرابِ الوطن، فتقتنصه المتاهة بعتمةٍ لها ثقلُ الأبديّة تقصي أملَ الخروج وتطبق على رفّة جناحٍ؛ يمزّق ريشَهُ وعدٌ (مؤجّل للطيران).

خزّان التجربة الذي انفتح في "فهرس الأخطاء" وأطلقَ الألم يعوي في بريّة قصائده، كأنه الصدى لأذان الموت المرفوع يتخلّل صور الهشيم التي تعلن المأساة: (في جبتي وطنٌ من بكاء).. الخزان الفائض تصطفق جدرانه بماء اللوعة ليلوذ الشاعر بحضن الجذر الأول؛ طيفِ الأم يومئ له بلحظة خلاصٍ أو نسيان، فيندلع إليها: (.. هدهديني/ فقد شابَ مني الشراع/ وها أنذا مبحرٌ/ مثل جذعٍ يتيم/ في عباب الحياة).

الجذع اليتيم المدوَّم في اللّج، لم تزل رحلته برسم التقييد تُستعاد وتتوسّع في ديوان الشاعر الثاني "يتوكّأ على عماه" - الصادر في عمّان شأن ديوانه الأول - فتجربة التبدّد في المنافي وفي حرقة الرحيل لن يحيط بها كتابٌ واحد. ثمّة جرحٌ لا يكفّ عن النّزف وحكّة ملازمة لجلد الروح.

التجربة التي كانت حكاية عن وطن وعن ناس وعن منفى؛ تغوص في "يتوكّأ على عماه" إلى تربةٍ أعمق، تنفتح معها هذه التجربة على الوجود الإنساني في كيانه الفردي والجمعي؛ منظورا إليه دون تقطّع في اتّصاله بالتاريخ ولحظة الحاضر وامتزاجه بروح الأشياء التي تنكتب وفقَ مسار تلتقي فيه إشعاعات تلك التجربة الوجودية على نحوٍ بالغ التكثيف؛ عماده التأمل في الاكتناه والشذرة في البناء. فلم يكن غريبا أن يأتي الديوان الأول في خمس وعشرين قصيدة، فيما يتألف الديوان الثاني من عشر قصائد. ذلك أن الاختمار هنا ينزع إلى التركّز ومعانقة اللب، كما هو الحال في قصائد "تخطيطات حجرية" و "الأبواب".. و"كتاب القمصان" التي تعتبر جوهرة الديوان حيث اندغمت فيها الشخصيات التاريخية والتاريخ العائلي وتخللتها ريح المكان؛ بما يشكّل سيرة للعالم غير أننا ـ في هذه السيرة ـ نظلّ ملفوحين بوجع العراق: (أغرق في ذاكرة ترابٍ آخر/ يرسم وجهي من جديد/ ويطبع حروفا أخرى على لساني/ يلمسني فأمّحي/ ينفخ في جسدي من روحه/ فأصير غبارا/ تتقاذفه الريح/ وتغلق دونه المدن الأليفة/ أبوابَها).